كلّ الطرق تؤدي إلى الصين بالنسبة إلى الأميركيين. فمواجهة العملاق الآسيوي، قد تكون أولوية للحزبين الجمهوري والديمقراطي، اليوم، وهذه الثابتة، تجعل الصينيين من أشدّ القلقين، من وصول جو بايدن، نائب الرئيس السابق باراك أوباما، رافع شعار “التوجه شرقاً”، إلى البيت الأبيض. لم يحد الرئيس الخاسر في الانتخابات الرئاسية الأميركية، دونالد ترامب، عن هذا الخطّ، وإذا كان الأسلوب مختلفاً، فلن يكون “الجوهر” كذلك، على الأرجح. سيكون على بكين أن ترصد جيداً “خبث” بايدن، والعودة ربما إلى “القوة الناعمة”، التي استخدمها أوباما مع بكين. من جهته، لم يخف الرئيس المنتخب، في مقابلته مع توماس فريدمان في صحيفة “نيويورك تايمز” أخيراً، والتي رسمت عناوين عريضة لسياسته الخارجية، “أولويته” الصينية، وخطوطه الأساسية، في سياسته معها.
بانتظار ذلك، كثّفت إدارة ترامب، ضغوطها على الصين، في الشهرين الأخيرين من ولايته. وكان وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، قد قام بجولات خارجية مكوكية في الأشهر الأخيرة، شملت دولاً عدة في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، لم تكن الصين بعيدة أبداً عن مضمونها. فلجم التمدد الصيني، الاقتصادي والتجاري والسياسي، مادة تجد ظلالها في أي مباحثات يجريها الأميركيون في الخارج. وقد أبدى الحزب الجمهوري في الكونغرس الأميركي، أخيراً، استعداده للتعاون مع إدارة بايدن، للعودة إلى صياغة تحالفات دولية، لاسيما مع “الحلفاء التقليديين” لواشنطن، لبناء استراتيجية واضحة لمواجهة العملاق الآسيوي، وهي سياسة تقليدية يعتمدها الغرب مع القوى الصاعدة، فيما بدأ اسم الحزب الشيوعي الصيني، يُقحم أكثر فأكثر في منظومة “العقوبات الأميركية”. بالنسبة إلى الأميركيين، تبدو كل الوسائل مشروعة لمواجهة الصين، التي ستكون من دون شك العنوان العريض لسياسة الولايات المتحدة الخارجية في المرحلة المقبلة، والطرف الثاني في “الحرب الباردة” الجديدة.
إجراءات قياسية
ووصف رئيس الاستخبارات الوطنية الأميركية، جون راتكليف، الخميس الماضي، الصين بأنها تشكل “أكبر تهديد للديمقراطية والحرية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية”، بينما فرضت واشنطن قيوداً مشددة على منح تأشيرات السفر لأعضاء الحزب الشيوعي الصيني. وفي مقال رأي نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال”، اتهم راتكليف الصين بسرقة أسرار الأعمال وتكنولوجيا الدفاع الأميركية. وكتب إن “جمهورية الصين الشعبية تمثل أكبر تهديد للولايات المتحدة اليوم، وأكبر تهديد للديمقراطية والحرية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية”، متحدثاً عن عمليات استخدم فيها عملاء صينيون الضغط الاقتصادي للتأثير على المشرعين الأميركيين أو إضعاف مكانتهم. وكتب راتكليف أن “القيادة الصينية تسعى إلى إخضاع حقوق الفرد لإرادة الحزب الشيوعي”.
وفي الوقت نفسه، قالت وزارة الخارجية الأميركية إن أعضاء الحزب الشيوعي الصيني “معادون للقيم الأميركية” ويشاركون في “نشاطات مضرة”. وبموجب القواعد الجديدة التي تدخل حيّز التنفيذ فوراً، ستظل التأشيرات الصادرة لأعضاء الحزب وأسرهم المباشرة صالحة لمدة شهر واحد فقط بعد الإصدار ولدخول لمرة واحدة، فيما كانت في الماضي بعض التأشيرات تسمح بالدخول غير المحدود، ويمكن أن تظل صالحة لمدة تصل إلى 10 سنوات. ونقلت “نيويورك تايمز” عن متحدث باسم وزارة الخارجية، أنه “على مدى عقود، سمحنا لأعضاء في الحزب الشيوعي الصيني بالدخول بشكل حرّ، ومن دون عراقيل إلى المؤسسات والشركات الأميركية، رغم أن هذه الامتيازات لم تقدم أبداً بشكل حر إلى المواطنين الأميركيين في الصين”. وقالت الصحيفة إن القيود الجديدة يمكن أن تطبق نظرياً على نحو 270 مليون شخص.
وصعّدت الحكومة الأميركية نزاعها مع بكين أيضاً بشأن الأمن، بإضافة البنتاغون أكبر مُصنّع لرقائق المعالجات في الصين، وعملاق نفط مملوكاً للدولة، إلى قائمة سوداء تحد من الوصول إلى التكنولوجيا والاستثمار الأميركيين. وأضاف البنتاغون أربع شركات، بما في ذلك المؤسسة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات، والمؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري، إلى قائمة الكيانات التي تعتبر جزءًا من جهود الصين لتحديث جيش التحرير الشعبي، الجناح العسكري للحزب الشيوعي الحاكم، ما يرفع العدد الإجمالي للشركات المدرجة في القائمة السوداء إلى 35 شركة.
إلى ذلك، أقر الكونغرس الأميركي قانوناً من شأنه أن يغلق البورصات وأسواق المال الأميركية أمام الشركات الصينية. ويمكن إحالة “قانون مساءلة الشركات الأجنبية” إلى مكتب ترامب للموافقة النهائية عليه. وهذا الإجراء الذي قدّمه في عام 2019 السيناتور الجمهوري جون كينيدي، يفرض على الشركات الأجنبية المدرجة في بورصات الولايات المتحدة، التقيد بشروط المحاسبة لهيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية. والعديد من الشركات الأجنبية تلتزم بذلك المعيار، لكن ليس الشركات الصينية. إضافة إلى ذلك سيتعين على مجموعات صينية مدرجة في الأسواق المالية الأميركية الكشف عما إذا كان أحد أعضاء مجلس إدارتها، أو أكثر، ينتمون للحزب الشيوعي الصيني. وقال محللون سياسيون، بحسب ما نقلت عنهم وكالة “رويترز”، إن ترامب من المرجح أن يتخذ إجراءات أخرى قبل أن يتولى بايدن منصبه في 20 يناير/ كانون الثاني المقبل. ورداً على ذلك، اعتبرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشونغيينغ، إن “بعض القوى المتطرفة المعادية للصين في الولايات المتحدة، تقوم مدفوعة بانحياز أيديولوجي وعقلية الحرب الباردة المتجذرة، باضطهاد سياسي للصين”، مؤكدة “معارضة” بلادها بشدة لذلك.
وأعلن بايدن، أخيراً، أنه يعتزم الإبقاء في الوقت الحاضر على الرسوم الجمركية المشددة التي فرضها ترامب على الصين في سياق الحرب التجارية بين البلدين. وقال بايدن، في مقابلته مع فريدمان إن “أفضل استراتيجية صينية، أظن، هي واحدة تجعل كل واحد من حلفائنا- أو من كانوا حلفاءنا (في إشارة إلى ابتعاد ترامب عن الحلفاء التقليديين)، على نفس الموجة. سيكون ذلك أولوية كبيرة لي خلال الأسابيع الأولى من ولايتي”. وأكد بايدن أنه لن يعمد مباشرة إلى إلغاء ضريبة الـ25 في المائة التي فرضها سلفه على حوالي نصف ما تورده الصين إلى الولايات المتحدة، أو المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري بين ترامب وبكين، الذي يجبر الأخيرة على شراء إضافي مقداره 200 مليار دولار من الخدمات والمنتجات الأميركية خلال العامين 2020 و2021، والذي لم تلتزم به الصين”.
بايدن: أكثر خبثاً؟
وفي الواقع، بلغت العلاقات الأميركية الصينية مستوى متدنياً جداً في عهد ترامب، الذي فتح حرباً تجارية ضروساً مع العملاق الآسيوي، تركز خصوصاً، على فرض الضرائب. لكن هل كان الصينيون ممتعضين فعلاً من الرئيس الجمهوري؟ قد تبدو حرب ترامب الصينية، توطئة لما قد تحمله الأشهر المقبلة، على صعيد العلاقة بين البلدين. وإذا كان بايدن قد أكد أنه لن يتراجع عن خطوات ترامب، إلا أنه في اعتقاده أن مواجهة الصين لن تكون ناجحة من دون العودة إلى التحالفات التقليدية، لا سيما مع استعداد الصين لذلك جيداً، عبر تشريع نفسها اقتصادياً كسوق استهلاك، بعدما ظلّت لعقود مصنفة كدولة منتجة بأسعار رخيصة، ومورداً أول لعدد كبير من دول العالم. وقد عمدت الصين إلى بناء اتفاقات أولية، مع دول تدور في الفلك الأميركي، كاليابان وكوريا الجنوبية، للاستيراد منها. وإذا كان هدف بايدن فعلياً ليس فقط أخذ السلع والاستثمارات من درب الصينيين، كما أراد ترامب، فهو يعتبر أن سياسة سلفه المتهورة، أو حتى الخرقاء، قد حالت دون بناء تحالفات متينة لمواجهة التمدد الصيني. ولذلك، فإن أولى الخطوات على الأرجح، ستكون على الصعيد الدولي، العودة إلى الاتفاقات الدولية، وإلى المجتمع الدولي، ومنها العودة إلى اتفاق المناخ الشهير، الذي تتمدد آثاره للصين. ويرى فريق بايدن، أن فرض الرسوم الجمركية، وسياسة العقوبات، على الطريقة الترامبية، لا تكفي، بل إن محاصرة الصين فعليا، هي التوسع في سياسة أوباما، ومنها التخلص من بعض الأزمات الجانبية، كالبرنامج النووي الإيراني مثلاً، وجعلها أكثر “خبثاً”. وكان بايدن أيضاً واضحاً في مقابلته حين تطرق إلى ثلاث مسائل مباشرة يجب العمل عليها، وهي دفع الصين إلى احترام الملكية الفكرية، ووقف دعم الحكومة الصينية للشركات الكبرى الصينية، كما تفعل مع “هواوي”، ووقف الرواتب المنخفضة للعاملين في الصين. وإذا كانت هذه المطالب، هي التي يرفعها الغرب دائماً في وجه كل القوى الصاعدة، فإن بايدن ينظر إلى استعادة التحالفات الأميركية، كأساس للقدرة على المضي في هذه الضغوط، بالإضافة إلى تحصين الداخل، والتوافق الحزبي. وقال بايدن صراحة في مقابلته إنه للنجاح، يجب أن يكون لنا “سطوة”. ومن منظوره، فنحن لا نمتلكها بعد. ومن هذا المنطلق، يرى الرئيس المنتخب أن نظرية “أميركا أولاً”، التي يعتبر أن سلفه لم يطبقها، قد تنفع ليكون لنا “سياسة إنتاجية تقليدية جيدة”، و”استثمار حكومي في قطاعات الصناعة والبنى التحتية والأبحاث، للتنافس بشكل أفضل مع الصين”.
تقول مجلة “إيكونوميست”، إن ترامب وفريقه مارسوا ضغوطاً كبيرة على بايدن خلال حملة الانتخابات، واصفين الأخير بأنه “ساذج” بالنسبة إلى الصين. وبينما جعل ترامب الصين و”الفيروس الصيني”، عنواناً لحملته، ردد بايدن أنه “ليس علينا أن نصور الصينيين وكأنهم يسرقون طعامنا”. ويقول دبلوماسيون أن الرئيس المنتخب احتاج إلى “إعادة برمجة” حول الملف الصيني، خلال الحملة، ليعود ويطلق على الرئيس الصيني شي جين بينغ صفة “البلطجي”. بين هذا وذاك، ترى المجلة أن سياسة الصين بالنسبة لبايدن، ستكون خليطاً من الترامبية والأوبامية، فهل ينجح؟ وما هو الرد الصيني؟
المصدر: العربي الجديد