السوريون ودوّامة البحث عن المخرج

عبد الباسط سيدا

تضم الأحزاب السياسية عادة مجموعة من الأشخاص توافقوا على التوجهات الهادفة إلى إنجاز تغيير سياسي، يقترب، وفق منظورهم، نحو الأفضل بالنسبة إلى مجتمعهم. والحزب لا يكون فاعلاً من دون وجود نواةٍ صلبة، تكرّس وقتها وجهدها لبلورة سياسة الحزب، ووضع خططه، والعمل على تنفيذها.

ولا يمكن لأي حزبٍ أن يفلح في بلوغ ما يعمل من أجله، من دون تأييد شعبي مقبول، يتجلّى في الأنظمة الديمقراطية من خلال نتائج الانتخابات. أما في الأنظمة الديكتاتورية فهو غالباً ما يتشخّص في الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات. وحين تنسدّ الآفاق، ويتم التيقن من استحالة الإصلاح، وتتفاقم المشكلات، تأخذ الاحتجاجات طابع الانتفاضة، وحتى الثورة. وفي هذه الحالة، تبدأ الأحزاب التي عملت باستمرار على إخراج الطاقات الكامنة لدى وسطها الشعبي إلى حيز الوجود بالفعل؛ وتعمل على توجيه الانتفاضة أو الثورة نحو أهدافها الحقيقية، وتحرص باستمرار على منع استغلالها من قوى خارجيةٍ لها أجنداتٌ إقليمية أو دولية، وأخرى داخلية، قد تكون على علاقةٍ مع النظام نفسه الذي ثار عليه الشعب.

ولكن في حالة ثورات الربيع العربي كانت هناك وضعية استثنائية، تمثّلت في ثوراتٍ عارمةٍ جسّدت غضب مختلف الشرائح والقوى المجتمعية من جهة، وغياب الأحزاب والقوى السياسية القادرة على التوجيه والتنظيم، والاستمرار حتى بلوغ الأهداف من جهة ثانية. ورغبة في التحديد والاختصار، سيتم هنا التركيز على الحالة السورية، باعتبارها مستمرة ومفتوحة على كل الاحتمالات.

كانت الأوضاع في سورية متأزمةً على جميع الأصعدة قبل عملية التوريث عام 2000؛ لكن حافظ الأسد كان قد تمكّن من تدجين القوى السياسية المعارضة ضمن إطار ما سمّاها “الجبهة الوطنية التقدمية”. أما القوى الأساسية التي تمرّدت على عملية التدجين، فقد كان نصيبها القمع المتوحش والشيطنة والتصفية. هذا في حين أن الأحزاب الكردية كانت، منذ البداية، أحزاباً مطلبية، لا تشكل خطراً على النظام.

وفي العام الأول من حكم بشار الأسد الذي كان بعد العملية القيصرية التي أجريت لدستور والده، أعطيت وعود كثيرة بالإصلاح، تعاملت معها النخب السورية وكأنها وعود صادقة. وشهدت سورية، في تلك المرحلة، حركة دؤوبة من دعاة الإصلاح، تمثلت، أولا، في بيان الـ 99، ومن ثم في بيان الألف، ومنتديات إحياء المجتمع المدني. ولكن سرعان ما تدخلت السلطة مجدّداً، وأوقفت الحراك السلمي المدني الذي كان يغلب عليه الطابع الليبرالي العلماني، وذلك بعد أن وجدت فيه خطراً جدّياً يهدّد استبدادها وفسادها. وتراكمت السلبيات، وتفاقمت الأزمة، وانسدّت الآفاق أمام الشباب السوري المتميّز بقدراته، والحريص على مواكبة العصر، وهذا ما نشهده واقعاً ملموساً في مختلف المهاجر التي انتقل إليها السوريون قسراً. ولم تكن الأحزاب السياسية المعارضة مؤهلةً لتوجيه النقمة الشعبية وعقلنتها، فهي كانت بصورة عامة ضعيفة، من جهة التنظيم والشعبية، وهرمة من جهة القيادة؛ وكانت قد استسلمت، في واقع الحال، لإرادة الأجهزة الأمنية، حينما ارتضت بحصر عملها ضمن الهامش المباح.

ومع انفجار الثورة السورية الشاملة، عبر المظاهرات السلمية في معظم المناطق السورية، وهي المظاهرات التي تميزت بطابعها الشبابي والوطني بصورة عامة، وضمّت الطلبة والمثقفين والفنانين والأكاديميين والشغيلة وأصحاب المهن والمحلات التجارية والمزارعين من مختلف المكونات المجتمعية السورية، كانت الأهداف الأساسية تتمثل في المطالبة بالإصلاح، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور، إلى جانب رفع حالة الطوارئ.

وكانت هناك حاجة حقيقية لقيادة سياسية تتمكّن من تجسيد أهداف الثورة، والدفاع عنها، والعمل على كسب التأييد لها. هذا إلى جانب تنظيم الجهود، وتأمين المستلزمات المطلوبة لاستمرارية الثورة، والحرص على عدم انحرافها عن خطها الوطني الإصلاحي. ولم تكن هذه المهمة سهلة قطعاً. وقد تنبهنا، منذ البداية، إلى الصعوبات الكبيرة التي ستواجهنا في هذا المجال، لأن الأحزاب الموجودة لم تكن في وارد القيام بهذه المهام، كما أن الأفراد المعارضين كانوا مبعثرين مشتتين في المكان والعلاقات والتوجهات.

وبعد سلسلة مؤتمرات عشوائية أخفقت في إنجاز المطلوب، أخذت مجموعة محدودة العدد على عاتقها موضوع السعي من أجل تشكيل منظمة أو مؤسّسة سياسية، تكون العنوان السياسي للثورة. وقد بذلت جهود كبيرة لإنجاز ذلك، وجرت مناقشاتٌ مسؤولة، تناولت الوضع السوري من مختلف جوانبه، وتم التواصل مع القوى السياسية المختلفة لدعوتها إلى الإنضمام إلى المشروع المرتقب؛ وظهر المجلس الوطني السوري، كما نعلم جميعاً، الذي كان بصورة أساسية حصيلة حوارات ومناقشات سورية – سورية؛ وتمكّن، خلال فترة وجيزة، من الحصول على الاعتراف الأهم والأعز من الشعب السوري الذي خرج في مظاهراتٍ عارمة، ترفع شعار “المجلس الوطني السوري يمثلني”، وكان الانفتاح الدولي الواسع على المجلس.

وعلى الرغم من ضغط الظروف، وقلة الخبرة، والإمكانات المحدودة، والحواجز النفسية التي كانت بين القوى السياسية، والشخصيات التي تشكل منها المجالس، استطاع هذا الأخير أن يثبت مقدرة السوريين على العمل المشترك، وحاز احترام الدول. وأذكر في هذا المجال قولاً لمسؤول عربي بعد تشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وفي أثناء مناقشة الصعوبات التي كانت تواجهنا حينئذ: “لقد كنتم تعملون في المجلس على أفضل وجه، ولكننا لم نساعدكم”. ومثل هذا الكلام سمعناه من مسؤولين آخرين دوليين وعرب.

ولكن ما حصل أن القوى الدولية المؤثرة لم تكن موافقةً على توجهات المجلس، المستلهمة بصورة أساسية من أهداف ثورة السوريين. كما أن سوريين كثيرين من المعارضين الذين ظلوا خارج المجلس، لأسباب عدة، كانوا في عجلةٍ من أمرهم، ولم يستوعبوا الظروف والإمكانات، بل عملوا بكل الوسائل على الإساءة إلى المجلس، ما داموا ليسوا داخله. حصل ذلك مع أنه كان هناك سعي جاد للتواصل مع جميع القوى السياسية والفعاليات المجتمعية والشخصيات الوطنية السورية، بغية ضمها إلى المجلس، أو التنسيق وتبادل المهام معها، ليكون الأخير الإطار الوطني الشامل الذي يجمع بين كل الوطنيين السوريين الساعين من أجل الأفضل لشعبهم ووطنهم.

وقد استغلت القوى الدولية، المعنية بسورية وجغرافيتها وأهميتها المفتاحية في المنطقة، نرجسية بعض السوريين، واستعجال بعضهم الآخر، كما استغلت الخصومات والمنافسات الشخصية لدى طائفةٍ ثالثة، فتحرّكت لسحب الشرعية من المجلس الوطني، بعد أن تيقنت من استحالة إقناعه أو التأثير عليه بخصوص التخلي عن أهداف الثورة السورية، ومطالب الشعب السوري المتمثلة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وتم تشكيل “الائتلاف” بضغط دولي من مختلف الأنحاء، وكان من الواضح أنه جسمٌ مأزوم منذ البداية. شكّلته الدول لا السوريون، واختارت أعضاءه وقياداته الدول، وليس بناء على توافقات السوريين؛ الأمر الذي كان يوحي، منذ ذلك الحين، بأن المبادرة قد خرجت من أيدي السوريين؛ وهذا ما تأكد لاحقاً عبر مشروع توسعة “الائتلاف” الشهير عام 2013، ومن خلال مؤتمر الرياض1 عام 2015، ومن ثم تشكيل هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية، ومؤتمر الرياض 2 عام 2017، وتشكيل اللجنة الدستورية عام 2019؛ إذ تمكنت الدول من تحديد أسماء المدعوين للمشاركة، وأسماء من سيكونون في اللجنة الدستورية.

لقد فوّت السوريون المناهضون لحكم بشار، المستبد الفاسد المفسد، على أنفسهم فرصة نادرة، حين ورّطوا أنفسهم بمشروع “الائتلاف”، وأفسحوا المجال أمام القوى الدولية للتدخل في أدق تفاصيل خصوصياتهم المجتمعية. وما نشهده راهناً من تجمعات ودعوات إلى عقد مؤتمر وطني سوري لا يخرج، في معظمه، عن هذا الإطار بكل أسف، على الرغم من وجود نياتٍ صادقة لدى كثيرين، فمعظم هذه الاجتماعات الشللية، والمشاريع الحزبية التي نسمع بها، أو نقرأ عنها، بصورة شبه يومية من هنا وهنا، مستعجلة، لا تستند إلى دراسة معمقة لطبيعة الوضع السوري، وماهية الاحتياجات. وهي غالباً مشاريع تحرّكها دوافع فردية أو شللية، تنطلق من عقليةٍ سحريةٍ تنشد الحلول السريعة غير الواقعية. لا تأخذ بالاعتبار ماهية الصعوبات، وتهمل تحديد الأسباب الحقيقية، ولا تقيم التوازن بين الإمكانات والحاجات والظروف.

هذا في حين أن اجتماعات أخرى افتراضية وواقعية نظمت، وتنظم، هنا وهناك، كانت بغرض التعمية والتضليل، وإعطاء انطباعٍ زائفٍ بأن الجهة المنظمة حريصةٌ على معرفة آراء الناس، وتقيم وزناً لرغباتهم وقراراتهم. والقاسم المشترك بين هذه الاجتماعات أن الجهات التي تقف وراءها غالباً ما تكون غير سورية؛ لكنها تستخدم السوريين ليكونوا مجرّد واجهة لمشاريعها التي لا تتقاطع مع مصلحة السوريين وبلدهم، بل تقيم الحواجز بينهم، وتجعل من بلدهم مجرّد مناطق نفوذ، قد تتحوّل مستقبلاً إلى مناطق وجود دائم لتلك الجهات الأجنبية، أو قد تصبح مجرد أوراق ضغط في لعبة المساومات الدولية.

الكل اليوم في انتظار الاستراتيجية الأميركية الجديدة في عهد الرئيس المقبل جو بايدن، ولكن الأهم سورياً أن يعيد السوريون ترتيب أوراقهم وأفكارهم وأولوياتهم، ويستعدّوا للإبحار في هذا الجو العاصف. فمن يدري؟ ربما تصبح الرياح أكثر انسجاماً مع أشرعتهم، على حد تعبير أحد الأصدقاء، هذا إذا ما أحسنوا تجهيزها وتثبيتها، وتمسّكوا بأولوياتهم الوطنية السورية قبل أي شيء آخر.

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى