الفشل أو النجاح، أحدهما سيكون احتمالاً حتمياً لأيّ عمل يقوم به فردٌ أو جماعة أو دولة أو أو، ولئن كان النجاح دائماً مقترناً بالنشوة التي ربما تصل إلى حدّ الزهو والترنّح، فإن الفشل غالباً ما تعقبه غصّة ممزوجة بحالة من الإحباط، إضافة إلى شعور بالتقصير، إلّا أن هاتين الحالتين النفسيتين التقليديتين ليستا ثابتتين أو حتميتين على الدوام، بل إن التعاطي معهما لم يكن على سويّة واحدة عبر التاريخ، فكثيرٌ من الدول أو الجماعات أو الأفراد الذين حققوا نجاحاتٍ باهرة وإنجازات عظيمة، لم يلبثوا طويلاً في أفياء الزهو، ولم ينشغلوا أو يترنّحوا من نشوة الظفر، بل ربما كان ما حققوا من نجاح حافزاً لهم نحو المضي للتفكير بنجاح آخر، وهكذا يكون كل مُنجَزٍ هو المدخلُ إلى مُنجَز آخر، ولعلّ العديد من القادة قد جعل هذا الضرب من التفكير منهجاً استراتيجياً لاستمرار البناء والتقدّم، فقد رُويَ أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قام بعزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيش، واستبدله بأبي عبيدة بن الجراح، علماً أن خالداً حقق إنجازات عسكرية عظيمة، وربما كان الدافع إلى هذا التغيير هو الحيلولة دون أن يستبدّ الزهو بشخصية خالد، أو تأخذه عزّة المُنجَز. ومن جهة أخرى نجد أن ثمّة دولاً وأمماً قد واجهت كوارث جسام أودت بمقوّماتها المادية والبشرية، ولكنّها استطاعت أن تتمكّن من إدارة هذه الكوارث، فلم تسترخِ للندْب والشكوى، ولا استرسلت في سرد مظلومياتها، ولم تدع لنظرية المؤامرة حيّزاً واسعاً من تفكيرها، ولعل أقرب مثال لهذه الحالة هي نهضة اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
لعلّ الواضح مما سبق أن وراء حالتي الفشل والنجاح معاً، إدارةً تتأسس على منهج في التفكير، قوامُه التجاوز وليس التبرير، ومعياره الأساسي هو المعطى المادي الملموس (النتيجة)، وليس الإحالات الخارجية التي يتم استدعاؤها للتبرؤ من الفشل، أو تبرئة الذات.
لعل ما يسؤّغ لنا مقاربة هذا الموضوع، حاجتنا نحن – السوريين – إلى إدارات تُؤسِّس عملها على التفكير الممنهج وليس على الرغبات الشخصية، وتعمل وفقاً لمعطيات ناصعة ومدروسة وليس بناءً على اعتقادات، وترسم برامجها وفقاً لحاجات الناس وتطلعاتها وليس استجابة لنوازع نفعية أو شخصية ضيقة، بل ربما تبدو الحاجة شديدة إلى إدارات تملك الإرادة والشجاعة الأخلاقية التي تمكّنها من مواجهة نجاحاتها أو فشلها متمثّلةً بمعايير الرغبة في التجاوز، وليس الركون إلى التبرير.
لقد خضع السوريون منذ مرحلة ما بعد الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة، لنمطين من الإدارات، ينتمي كل نمط منهما إلى منظومة سياسية، وربما إيديولوجية مباينة للأخرى، إلّا أنهما تتقاطعان، بل ربما تتماهيان مع بعضهما البعض، من حيث منهج التفكير، ومن ثم السلوك المنبثق من طريقة تفكير كلّ منهما. تتمثل الإدارة الأولى بالحقبة الأسدية الممتدة من العام 1970 وما تزال قائمة، إذ واجه نظام الأسد خلال فترتي الأب والابن، ثلاث منعطفات هامة في تاريخ سورية، المنعطف الأول كانت حرب حزيران/يونيو عام 1967، والتي احتلت فيها إسرائيل الجولان وقسماً من الأراضي الفلسطينية ( الضفة الغربية وقطاع غزة)، وقد أحدثت تلك الحرب زلزالاً عنيفاً ومباغتاً ليس للسوريين فحسب، بل للعرب والمسلمين جميعاً، وعلى الرغم من الدور الضالع لحافظ الأسد آنذاك في عملية احتلال الجولان، باعتباره وزيراً للدفاع، إلّا أن هذا الزلزال لم يحظَ من تفكير الإدارة الحاكمة سوى بحيّز التبرير، إذ إن عوامل الهزيمة انحصرت بحجم المؤامرة الإمبريالية ودعمها للكيان الصهيوني، وأن هذه المؤامرة كان المراد منها أبعد من ذلك، وفقاً لحكومة الأسد، وهو كسر روح المقاومة وإرادة النضال، ولكن هذا لم يتحقق بفضل صمود النظام ومقاومته، وبالتالي فإن خسارة الأرض، يقابلها عند النظام انتصار الإرادة. المنعطف الثاني كان في حرب السادس من تشرين أول 1973، تلك الحرب التي دعاها حافظ الأسد بالتحريرية، وما هي في حقيقة الأمر سوى تحريكية، إذ إن تلك الحرب – وعلى الرغم من الاستثمار الإعلامي الهائل لها من جانب النظام – لم يجن منها حافظ الأسد أي مكسب ملموس سوى ما يتوهّم على أنه ردّ اعتبار له، على ما أعقبته هزيمة حرب 1967. ثم كان المنعطف الثالث في آذار/مارس 2011، غداة انطلاقة الثورة السورية، التي حسم بشار الأسد أمره باتجاه الحل الأمني، وقرر المواجهة العسكرية ضد شعبه مستعيناً بكل حلفائه، ساعياً إلى الإجهاز على تطلعات السوريين ومطالبهم المشروعة في الحرية والكرامة، ولو أدى ذلك إلى تحويل البلاد إلى أنقاض، زاعماً أنه يقود حرباً على الإرهاب، ومتمسّكاً بالآن ذاته بالخطاب ذاته الذي يستبطن كل أشكال المقاومة والممانعة والنضال ضد المؤامرة المزعومة. وعلى الرغم من كل ما حدث، بقي النظام كما هو، لم يتغيّر أيّ شيء لا في بنيته التنظيمية أو الإدارية، ولا في تفكيره ولا في سلوكه، وكان المعوّل الأساسي لنظام الحكم في إدارته لجميع هزائمه وإخفاقاته هو منهج التبرير، المنبثق من نزعته الجارفة نحو التسلّط والاستمرار في السلطة.
أمّا الإدارة الثانية، فهي المتمثلة في الكيانات الرسمية للمعارضة السورية، وتحديداً الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، بصفته كياناً سياسياً يدّعي تمثيل الثورة السورية، ولئن كان من الصحيح أن هذه المعارضة شرعت في مناهضة الأسد – سياسياً وعسكرياً – ورفعت شعار التغيير نحو الديمقراطية وسلطة القانون والعدالة، إلّا أنها من حيث نمط التفكير الناظم للإدارة، لا تبتعد كثيراً عن المعين المنهجي الذي يمتح منه النظام، بل ربّما قصّرت عنه في بعض الأحيان بسبب قلّة خبرتها في ممارسة السلطة، فبعد مرور تسع سنوات ونيّف من عمر الثورة، وبعد حدوث تغيّرات هائلة على المستوى الميداني والسياسي، لعل أبرزها: سقوط حلب الشرقية أواخر العام 2016، واقتحام قوات النظام مدن حمص والغوطة ودرعا وقسماً كبيراً من أرياف إدلب وحماة وحلب، وانحسار تام لنفوذ ما كان يدعى بالجيش الحر، وعلى المستوى السياسي، الالتفاف الروسي الكامل على القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، واختزال العملية السياسية بسلة الدستور، فضلاً عن تجاوز البنود الإنسانية ذات التطبيق الإلزامي، الواردة في القرار 2254 ،فيما يخص المعتقلين والمغيّيبين قسراً، أضف إلى ذلك، التغييرات التي طرأت على بنية القوى والأحزاب التي تشكل منها الائتلاف، أقول: جميع هذه التغييرات لم تشكل حافزاً للائتلاف لأنْ يعيد النظر في طريقة إدارته وتعاطيه مع تداعيات المشهد السوري، وكذلك مع المحيط الدولي، وهو إنْ أراد أو أوهم السوريين بأنه سيفعل ذلك، فغالباً ما يلجأ إلى القفز من فوق الإشكاليات الحقيقية التي يراها السوريون، كما هو الحال في إدارته الحالية التي تحيد بعيداً عن التحديات الجوهرية في عملية الإصلاح، كإعادة صياغة النظام الداخلي، وإعادة النظر بطبيعة المكوّنات المنضوية في الائتلاف، بقصد إعادة النظر في مستوى التمثيل، ولعل الأهم من ذلك السعي نحو العمل لاستعادة القرار الوطني ونزْع الصفة الوظيفية عن الائتلاف، أمّا الاستمرار في اللجوء إلى البربغندات الإعلامية فهو لا يكشف عن استهتار بإرادة السوريين وتضحياتهم والاستمرار في الاعتياش على نزيف مأساتهم فحسب، بل يكشف أيضاً عن مستوى الانحدار الأخلاقي المتمثل بإيثار المصالح الشخصية الرخيصة على المصلحة الوطنية السورية.
ما ابتُليَ به السوريون يجسّد مأساة مركَّبة، طبقتها الأولى نظام الإجرام الأسدي الذي استنزف دماءهم واستباح قتلهم وتهجيرهم، وطبقتها الثانية معارضةٌ ادّعت نصرتها لقضيتهم، إلّا أن نزوعها السلطوي ومحدودية أفقها الأخلاقي الثوري، يجعل منها عبئاً آخر على قضيتهم، مما يوحي بأن ثورة السوريين لن تنتهي بزوال نظام الأسد فحسب، بل بزوال إرثه الاستبدادي، فكرياً ومنهجياً وأخلاقياً.
المصدر: اشراق