رحيل الكاتب والروائي الرائد فاضل السباعي: ثم أزهر الحزن! 

محمد خليفة  

أحببت الأديب السوري الحلبي الراحل فاضل السباعي (129 – 2020 )، وعرفته ، قبل أن أقابله شخصيا . كنت قد تعرفت على أخيه الأصغر نادر 1941 – 2009 رحمه الله ، وكان أديبا يكتب القصة القصيرة أيضا ، وفارق الدنيا قبل أخيه الاكبر فاضل .

في عام 1968 صدرت روايته الشهيرة (رياح كانون) فاشتريتها وقرأتها بنهم ، وأعجبتني فعدت لقراءة روايته الأسبق والأهم والأشهر (ثم أزهر الحزن) فتركت في نفسي أثرا عذبا ، وأخذت اعود الى أعماله أقرؤها كتابا بعد كتاب .

يمتاز فاضل السباعي بلغة ناعمة ورشيقة وأسلوب يجذب القارىء ويشده ، دون تكلف أو تصنع ، يركز على الحدث الدرامي أكثر من أي شيء آخر ، دون مبالغات ، كما يفعل كثير من الروائيين ، متجنبا اللجوء للمؤثرات الجنسية والحسية . في روايته الأولى ( ثم أزهر الحزن ) ثم قرأت له ( الظمأ والينبوع ) ، ولم يتح لي قراءة روايته ( ثريا ) ، وقرأت من مجموعاته القصصية الشوق واللقاء ، وحزن حتى الموت . وقرأت قصصا متفرقة منشورة هنا وهناك .

وكان من أكثر ما شدني الى أعماله هو عالمه الروائي الذي يعكس بصدق وشفافية البيئة الاجتماعية لمدينة حلب ، وخاصة البيئة العائلية الداخلية لهذه المدينة المميزة والفريدة والعريقة . استطاع السباعي تصوير تلك البيئة في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن السابق ، إذ  كانت تشهد تحولا جذريا في تقاليدها وأنماط ثقافتها وحياتها وانتاجها ، وتنتقل من المحافظة والانغلاق الى الانفتاح والحداثة . استطاع الاديب الراحل سبر أغوارها ، وتسليط الضوء على بنياتها وعلاقاتها الاجتماعية الداخلية بحب وفهم ، وأعاد خلقها ، وتصويرها ، بعيدا عن فلسفة المثقف الفوقية  والنظرة الاديولوجية المسبقة ، مكتفيا بإضاءة جوانبها الانسانية ، وتناقضاتها ، وحياتها اليومية .. إلخ .

وفي الخلاصة استحق فاضل السباعي بشهادة نقاد سوريين وعرب كثيرين كحسام الخطيب وعمر الدقاق وضعه ضمن الجيل الثاني من الرواد الذين أدخلوا فن الرواية الى حلب ، بخاصة ، وسورية بعامة ، جنبا الى جنب مع أديب النحوي وعبد السلام العجيلي ووليد اخلاصي وكوليت خوري وغادة السمان .

وللأسف لا يعرف كثيرون أن فن الرواية العربية ولد في حلب ، لا في أي مدينة اخرى من مدن الضاد الكثيرة في الوطن الكبير. في هذه المدينة المصنفة اقدم مدينة مأهولة على وجه البسيطة ، ولد أيضا الشعر الحديث الحر والسوريالي في عشرينات القرن العشرين على يد المبدع الفذ والخالد الدكتور علي الناصر ، قبل أن يولد في بغداد بربع قرن على الأقل !

في حلب التي ظهرت فيها أول مطبعة بالحرف العربي عام 1702 نشرت أول رواية عربية عام 1865 بعنوان (غابة الحق ) للأديب الحلبي فرانسيس المراش ، حين كانت القاهرة ما زالت لا تجيد الكتابة ولا الغناء بالعربية الفصحى ، وحين كانت بيروت مدينة ثانوية وهامشية على صعيد الأدب والابداع والفن .

وفي الثلث الاول من القرن العشرين رسخ شكيب الجابري ، ومن بعده عبد الرحمن شلبي سبق حلب التاريخي في فن الرواية .

رحم الله قافلة المبدعين الرواد الراحلين ، وآخرهم فاضل السباعي الذي فارق الدنيا وهو في بداية العقد العاشر من عمره ، وظل الى أيامه الأخيرة  حاضر الذهن والوعي والذاكرة ، يكتب على صفحات الفيس بوك ذكرياته وملاحظاته وانطباعاته الذاتية في كل الشؤون الوطنية والسياسية والأدبية ، بكل حرفية وبلاغة وذهن صاف .

ذكرياتي معه  

لم أعد أذكر متى قابلت فاضل السباعي أول مرة ، ولكنها حتما في سبعينيات القرن الماضي ، إذ أنه كان يقيم ويعمل في دمشق ، ويتردد على حلب باستمرار لزيارة أخوته الكثيرين ، واقربائه واصدقائه القدامى . فدعاني أخوه المرحوم نادر الى لقاء مع فاضل في إحدى زياراته لحلب . وكان للقاء اثر مريح على كلينا ، وحدثته عن رأيي في رواياته التي قرأتها ، وكان سعيدا بآرائي . بعد ذلك صار يتصل بي كلما حل في حلب ، وأعطاني عنوانه في دمشق ، وصرت أزوره واقابله كلما قصدت دمشق .

 وفي يوم من أيام ايلول / سبتمبر 1980 جاء الى حلب ، واتصل بي ودعاني لحضور امسية قصصية له في مدرج كلية الآداب بجامعة حلب ، واتفقنا أن نسهر معا في تلك الليلة وطلب مني أن أخبر بعض الأصدقاء من الأدباء الشباب ، وخاصة المرحوم الشاعر عبود كنجو رحمه الله ، والشاعر حسام الدين كردي أمد الله بعمره .

ذهبت الى الأمسية ، وقرأ فاضل عدة قصص قصيرة ، قدم لإحداها بعبارة قصيرة مقتبسة من قصص الأديب الروسي نيكولاي غوغول ، تتحدث عن عالم موحش يسوده الرعب والقهر . ولا شك أن كل من كانوا في الأمسية فهم مغزى الاقتباس ، إذ أن حلب في ذلك العام شهدت انتفاضة شعبية هائلة على نظام حافظ الاسد فرد هو بإرسال قوات الوحدات الخاصة وسرايا الدفاع لاحتلال المدينة التي كان يكرهها كما تكرهه بشدة ، فارتكبت هذه القوات جرائم قتل واعتقال وتنكيل مروعة ورهيبة بحق السكان عمقت الكراهية المتبادلة وضاعفتها .

انتهت الأمسية وخرجنا من الصالة ، وتوجهت اليه أحييه وأصافحه ، وكانت إحدى بناته برفقته ، فقدمني اليها ، ويبدو انها كانت تعيش في الولايات المتحدة وقادمة في زيارة قصيرة الى الوطن والأهل . وبينما كنا نتبادل حديثا قصيرا بانتظار السهرة التي كانت ستضمنا بعد ساعة في منزل أخيه نادر بحي المحافظة الراقي ، اقترب منا شخصان ، وطلبا من فاضل السباعي مرافقتهما الى سيارة تنتظرهما ، أصابنا الذهول والوجوم والرعب لأننا فهمنا ما تعنيه تلك العبارة وفهمنا من يكون الرجلان ! سار فاضل السباعي بينهما ، بعد أن ودعني وطلب من ابنته الذهاب الى البيت وأوصاها بألا تقلق ، لأنه على يقين أنه لن يتأخر حتى يعود الى المنزل بعد ساعة أو ساعتين فهو لم يرتكب جناية ولا جنحة !

  أما بالنسبة لي فقد أدركت بحكم خبرتي بما يجري في تلك الأيام أن عودته الى بيته وأهله لن تحدث بسرعة وسهولة ، كما يأمل . أخذت أتابع أخباره عبر أخيه نادر ، وعلمت منه أن الاستخبارات العسكرية في حلب نقلته الى دمشق ، وأنه معتقل في زنزانة منفردة ، بلا تهمة محددة . لم أعد اذكر كم بقي في الاعتقال ، ولكنها بحدود ثلاثة شهور . وحين أخبرني أخوه نادر بالافراج عنه ، فرحت فرحا شديدا ، وسافرت في اليوم التالي الى دمشق ، وقصدت بيت فاضل السباعي . عندما فتح لي الباب واستقبلني وجدت فاضل وقد تغيرت ملامحه وقسماته الجميلة ، وغابت النضارة من محياه . كانت له لحية طويلة وكثيفة ، عانقته وهنأته بالسلامة وسألته عن اللحية فقال هذه من أثر المعتقل. وسرد لي ما وقع له عند الاستخبارات وقال إنه قضى المدة كلها في زنزانة منفردة صغيرة جدا وقذرة ، وعندما اقتادوه للتحقيق تركزت أسئلة المحقق على ما يقصده من الاستشهاد بعبارة غوغول ، وما إذا كان يعني بها تشابه الوضع بين حلب حاليا وما جرى في روسيا في القرن التاسع عشر ، وقال له هل تظننا لا نفهم مثل هذه الاشارات والعبارات الماكرة ؟!!

لم يكن فاضل السباعي من أهل السياسة ، لا مواليا ولا معارضا ، كان كاتبا وأديبا وحسب ، وعضوا مؤسسا في اتحاد الكتاب العرب ، وموظفا كبيرا في وزارة التعليم ، ويحظى باحترام الجميع لدماثة خلقه وتهذيبه واعتداله في كل شيء ، ولكنه في نفس الوقت لم يكن راضيا عما آلت اليه أحوال البلد ، وتغييب الفكر والثقافة ، ونشر النفاق والثقافة الاستهلاكية ، فكان لا يروق لأهل السلطة ، لا سيما أنه مثقف رصين ينتمي لما تسميه السلطة في ذلك الوقت بالبورجوازية والرجعية ، وعائلته التي تعد من العوائل النبيلة في حلب . ولعل أكبر جرائمه أنه لم يمتدح النظام أبدا ، ولا ( يمسح الجوخ ) للحزب الحاكم والمسؤولين ، وكان هذا بحد ذاته مبررا لتهميشه في وسائل الاعلام ، وفي الانشطة الثقافية العامة في البلد ، والنظر اليه كمعاد للنظام البعثي العلوي الشمولي ، وعلى الأخص في تلك الفترة التي شهدت البطش بالكتاب وأهل الرأي والنقاد ، ودخل كثيرون منهم المعتقلات ، وفر الكثيرون من سورية الى جهات الارض الأربع ، وشهد مؤتمر اتحاد الكتاب في ذلك العام ( 1980 ) حدثا غير مسبوق إذ تجرأ كتاب تميزوا دائما برماديتهم أو بقربهم من النظام على انتقاد السلطة علنا ، وبصوت عال ، ولغة غير معهودة في جمهورية الصمت والخوف ، وعلى رأسهم محمد الماغوط وممدوح عدوان وسعد الله ونوس .. إلخ . كان الجو العام في ذلك العام ينذر بمرحلة طويلة من القمع والسحق وتصاعد ارهاب الدولة المتوحشة ، والنظام الشمولي التوتاليتاري . وهي مرحلة امتدت الى عام 1982 حيث وقعت مذبحة حماة المأساوية ، وجرت مذابح متلاحقة في سجن حماة العسكري ، وفي حلب وجسر الشغور واللاذقية .

وقبل أن أغادر سورية في نهاية ذلك العام أجريت حوارا مع فاضل السباعي ، ونشرته في مجلة لبنانية ثقافية كنت أعمل معها في باكورتي المهنية .

انقطعت اللقاءات والاتصالات بيني وبين فاضل السباعي طوال أكثر من ثلاثين عاما بسبب مغادرتي سورية الى المنفى الكبير ، ولم يعد التواصل بيننا إلا  بعد ثورة 2011 بفضل وسائل التواصل الاجتماعي ، وخاصة الفيس بوك الذي كان الراحل الكبير يواظب على الحضور فيه والكتابة باستمرار ،  فكتبت له رسالة قصيرة سألته إن كان يذكرني أم ان السنين الطويلة قد أنسته اسمي وشخصي ، فقال كيف أنساك يا محمد خليفة .. هل تريد امتحان ذاكرتي ؟! أنا شخص لا سبيل للزهايمر اليّ . قلت له : كم أنا سعيد بعودة الاتصال بيننا ، وبادلني عبارات المحبة والتقدير بأحسن منها ، وبقينا نتواصل على صفحات الفيس بوك حتى الايام الأخيرة قبل وفاته .

قبل وفاته بسنوات قليله سافر الى الولايات المتحدة لزيارة ابنته ( السيدة سهير السباعي ) ، وتهيأ لي أنه سيبقى ولن يعود الى بلد لو أتيح لأشجاره أن تهاجر ، لهاجرت بسبب الحرب المجنونة التي تشنها عصابات السلطة العلوية الفاشية ، وقلت لنفسي ذلك أمر طبيعي أن يغادر فاضل السباعي وهو في ارذل العمر ليعيش في اميركا بطمأنينة وامان ، ولكنني فوجئت بعودته الى دمشق رغم الكوارث الكثيرة فيها ، وسألته لماذا عدت ولم تبق في أميركا .. فقال لي : أنا غير معتاد على السفر ولا أطيق البعد عن بلدنا ، أريد أن أموت في بيتي وبلدي وبين أهلي ، وها قد نال ما سأل الله .

رحم الله فاضل السباعي إنسانا يمتاز بالنبل والرقي والخلق الرفيع والحس الانساني . وأديبا مبدعا غزير الانتاج ، متعدد الاهتمامات وفنون الكتابة والسرد . وشجرة وارفة من أشجار الفستق الحلبي التي لا تشبهها كل أشجار الفستق في العالم !

المصدر : المدارنت 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى