أخذتنا غمرة حماسة، مشوبة بإعجاب نفس، فغفلنا عن نقطة ضعف مركزية في نسيجنا النفسي، بالرغم من أنها كانت، قبل الثورة، واقعا حيا تضج به جوارحنا وقلوبنا.
غفلنا عن أن نظام الأسد، منذ ظهوره قبل ثمانية وأربعين عاما، لم يكن مجرد نظام استبدادي تحركه شهوة السلطة، وحب السيادة، والرغبة في جمع الثروات والاستحواذ عليها.
لم نع أن النظام، وبطريقة ممنهجة ومنظمة، جعل من نفسه أسهل سجانينا، بعدما زرع فينا عللا وأمراضا نفسية واجتماعية وفكرية، تحتاج عقودا لإزالتها.
نرى آثار نظام الأسد في كل لفظة من ألفاظنا، وكل نفس من أنفاسنا، نرى آثاره ونلمسها، لمس المتألم بالنار، في أفكارنا وتفكيرنا، وفي أخلاقنا ومعاملاتنا، في شهواتنا ورغباتنا، وفي اختلافاتنا ونزقنا وضيق صدرنا، وفي أنانيتنا، وفي أحلامنا الصغيرة.
لا أبالغ، قطعا، إن قلت إن النظام، عبر أجهزته ومستشاريه وخبرائه وعمله الدؤوب، أوجد فينا جروحا نفسية عميقة، لا تندمل بسهولة، وغيَّر البِنية الأخلاقية للمجتمع السوري، ذاك المجتمع الذي قال عنه “ليوبولد فايس” الفيلسوف النمسوي العالمي، بعدما أسلم، وسمى نفسه “محمد أسد”، وزار سورية في رحلته البرية من أوروبا إلى مكة قبل نحو مئة عام، في كتابه الشهير: “الطريق إلى مكة”، قال إنه دهش من أخلاق أبناء سورية ومن استقامتهم، وروى في ذلك قصصا وحوادث حصلت له معهم، من ذلك دخوله على أحد محلات سوق الحميدية بدمشق، فوجده خاليا من صاحبه، لكن مالك المحل المجاور، وهو يبيع البضاعة نفسها، ناب عن جاره وباع محمد أسد، ثم عاد إلى محله، ذاك موقف أدهش محمد أسد وعرّفه بمستويات أخلاقية رفيعة، وبنفسيات بشرية فريدة، لم يعهدها في بيئة غربية تلتهمها مادية متوحشة.
أقول إن نظام الأسد غير المنظومة الأخلاقية، وأسقط المحرمات الدينية والأخلاقية في وعينا، فنشأ جيل، بل قل أجيال، معتل المفاهيم: يرى في الكذب شطارة، وفي الرشوة “تدبير شؤون”، وفي الربا ضرورة حياة، وصار الغش ثقافة مجتمعية، وسقطت حرمة الجار وقدسيته، وماتت غيرة الرجال على أعراضهم ميتة بشعة، بعدما كان السوريون مضرب المثل في المغالاة في ستر العورات وحفظ الأعراض كما يقول الأستاذ علي الطنطاوي رحمه الله، وتحول الله، سبحانه، ونبيه، صلى الله عليه وسلم، إلى مادة للسخرية والشتم على الألسن، وأذكر أنني في كل إجازة سنوية أنزل فيها إلى سورية كنت أسمع من سب الله والنبي في شوارع حلب، مثلا، ما يقشعر له البدن، وينفطر له القلب، وترتعد من بشاعته وقبحه الفرائص.
وفوق كل ذلك، فكك النظام مفاصل القوة الفكرية والأخلاقية في المجتمع، من خلال قتل خيرة العلماء والدعاة، أو اعتقالهم، ومن بقي فر بدينه إلى خارج سورية، ثم أكمل عمله المتقن ببناء طبقة من الكهنة سلمهم السلطة الشرعية في البلاد، فمنحهم احتكارية الخطاب الإسلامي الذي غسل العقول والأدمغة، وكرس سلبية مقيتة، وأمات الفكر، فصار عدد التسبيحات والتهليلات مقياسا للإيمان، وأصبحت درجة الخضوع للشيخ، وتسليم العقل والقلب له، الطريقَ الأوحد إلى رضا الله، وصارت جلسات الذكر الجماعي أفيون الفاشلين والكسالى، وتحول الدين إلى عادات وطقوس، وباتت الفتاة المؤمنة والصالحة هي تلك التي تخدم شيخها، فتنظف بيته وتحمم أطفاله، وترافقهم إلى الحمامات لقضاء حاجاتهم، وتشتري حاجيات المنزل، بينما زوجة الشيخ متفرغة لعملها، أو تلقي من خرافات زوجها على الفتيات المسكينات المريدات.
وسط هذا كله، كان كبار الكهنة يبنون “شرعية” حكم النظام، ويمارسون السحر على الناس، مفيدين من وسائل الإعلام والصحافة التي سخرت لهم، فملؤوا الفراغ الكبير الذي نتج عن تغييب أهل العلم والفضل الأصلاء في سورية، ملؤوه بسمومهم، فقدموا حافظ الأسد بصورة القائد المؤمن المواجه للصهيونية والامبريالية العالمية، فدخلت الناس في أسر الجهل والاستبداد أفواجا.
وحينما اندلعت الثورة سارت في طريق موحش بلا بصيرة، وبلا قيادة أخلاقية وفكرية ترسم لها خطة العمل في ضوء من الله، فقفز إلى الواجهة صبيان لم يكتمل نموهم، فتسلموا القيادة العسكرية، ثم حدث الأخطر بتصدرهم الفتوى والقضاء.
كل تلك الأمراض كانت تظهر عوارضها بشكل متدرج في الثورة، حتى وصلنا إلى ما نراه اليوم: شعب واحد لكنه أمم وقبائل ومذاهب وفرق تلعن كل واحدة أختها، وهكذا قفزنا من أسر الجهل والاستبداد، إلى عبودية الشهوات والذات.
اليوم، يحتاج الأمر إلى ثورة ذاتية، أن ينتفض كل فرد فينا على نفسه، يتمرد عليها، ويتحرر من أسر شهواتها وأنانيتها، التزاما بقاعدة الجهاد الأكبر، وهذه مهمة عسيرة، تحتاج جهدا مضنيا، ونفوسا كبيرة، وإرادة قوية، وعزيمة صلبة، وقبل ذلك تدريبا على التحلي بالإخلاص والتجرد التام.
بكل أمانة، نحن بحاجة إلى الانعتاق من عبادة ذواتنا وشهواتنا ورغباتنا، والدخول، من جديد، في عبادة الله أفواجا، عبادة القلب قبل الجوارح، وإذا ما عبّدنا قلبنا لله، ستتبعه كل الجوارح وتلين. بغير ذلك، ستستمر الهزلية الفصائلية وستواصل الهبوط بنا إلى الدرك الأسفل على كل الأصعدة.