في الخامس من أكتوبر الماضي وبينما كان المعلم السوري “م.أ” يجهّز نفسه للذهاب إلى المدرسة التي يدرّس بها في منطقة “بهشا شهير” في مدينة إسطنبول وصلته رسالة نصية من مدير المدرسة التركي تفيد بفصله من العمل، إذ لم يعد بإمكانه التدريس بعد الآن، في كلمات مفاجئة ومقتضبة لم تتطرق إلى أي تفاصيل تتعلق بالأسباب التي تقف وراء هذا القرار.
المدرّس الذي يحمل شهادة الدبلوم في التأهيل التربوي يقول في تصريحات لـ “موقع الحرة” إنه بات الآن وبعد قرار الفصل التعسفي “من دون عمل ومكتوف اليدين”، خاصة أن قرار الفصل جاء “الصدمة”، ولم ينحصر به فقط بل انسحب على أكثر من 90 معلما سوريا في مختلف الولايات التركية، من إسطنبول وصولا إلى ولاية هاتاي الحدودية.
ويوضح المدّرس أن أسباب فصله كانت مختلفة، ولعل أبرزها “الأسباب الكيدية والعنصرية”، مشيرا إلى أن فصله جاء بناء على قرارات فردية من قبل مدير المدرسة التركي، وبعض الموظفين في مديرية التربية التركية، ويؤكد: “الفصل بشكل عام تعسفي ومن دون سابق إنذار، ومن دون أي مبرر إلى الآن”.
الحالة الخاصة بالمدّرس “م.أ” تتشابه من حيث قرار الفصل التعسفي مع حالة نظيره “س.ر”، المقيم في ولاية غازي عنتاب، والذي كان قد أبلغ في السابع من أكتوبر الماضي أيضا بقرار فصله من المدرسة التي عين فيها، منذ قرابة عام ونصف، ويقول في تصريحات لـ “موقع الحرة” إن أسباب قرار فصله لم تتضح حتى الآن، وما تسرب منها من مصادر تركية غير رسمية تشير إلى أنها ترتبط بالجانب “الأمني”.
المدرس “س.ر” الذي طلب عدم ذكر اسمه كونه ما يزال في طور التواصل والتفاوض مع “التربية التركية” لإعادته للعمل يضيف: “التدريس هي مهنتنا الوحيدة في تركيا، والآن أصبحنا من دون عمل. لماذا تم فصلنا؟ لا أحد يعلم. لم نخرق أي بند من بنود العمل، حتى أننا كنا ملتزمين بساعات وأيام الدوام بشكل يزيد عن المطلوب منا”.
وحتى منتصف أكتوبر الماضي، وبحسب إحصائية حصل عليها “موقع الحرة” بلغ عدد المدرسين السوريين المفصولين من قبل وزارة التربية التركية 95 مدرسا، وجاءت قرارات فصلهم بشكل تدريجي وفي فترة زمنية متقاربة، ومن دون ذكر الأسباب التي تقف وراء هذا القرار.
عمليات الفصل شملت المدرسين السوريين في أكثر من 21 ولاية تركية، وهي الولايات التي كانت تضم مراكز تعليم مؤقتة في السابق، وتضم حاليا معلمين سوريين تحت مسمى “متطوعين”.
“القرار من فوق”
بعد قرار الفصل من جانب “التربية التركية” شهدت أوساط المعلمين السوريين حملات ومبادرات لدعم المدرسيّن المفصولين، وفي حي الفاتح بمدينة إسطنبول تمكن أحد المعلمين من الحصول على مبلغ مالي لدعم الذين طالهم قرار الفصل، لكنه قد لا يكفيهم لشهر واحد فقط، ولاسيما أن المساعدة المالية تبلغ 800 ليرة تركية للمعلم الواحد.
“خالد” أحد القائمين على المبادرة المالية يقول في تصريحات لـ “موقع الحرة” إن قرار الفصل للمدرسين السوريين جاء بـ “طريقة مهينة”، ويتابع: “وأنت قائمٌ على رأس عملك تخيّل أن تذهب إلى المدرسة التي تعمل بها ليتم إبلاغك بأن لا عمل لك بعد الآن”.
ويشير “خالد”، وهو مدرس قائم على رأس عمله في إحدى المدارس المؤقتة في مدينة إسطنبول إلى أن الحديث يدور في الوقت الحالي أن قرار الفصل يرتبط بجزء منه بـ “الشهادات المزورة”، لكن لا يوجد أي شيء ملموس حتى الآن.
ويوضح المدرّس أن نظراءه من المعلمين السوريين المفصولين يحملون شهادات جامعية، وشهادات دبلوم وماجستير أيضا، ولم يُقدموا على التزوير، أو يتعاملوا بهذه الطريقة، منذ دخولهم إلى الأراضي التركية.
وحسب المدرس، فإن عدة منظمات مجتمع مدني وأخرى خاصة بالتعليم في تركيا تواصلت مع “التربية التركية” في العاصمة أنقرة، إلا أن ذلك لم يكن مجديا بشيء، معتبرا: “القرار ليس بيد أحد.. أجا من فوق”.
ويوضح المدرس أن معلمون من “نقابة المدرسين السوريين” ذهبوا أيضا، في الأسابيع الماضية، برفقة شخصيات من “الائتلاف الوطني السوري” لمقابلة مسؤول المعلمين السوريين في “التربية التركية”، إلا أن اللقاء كان “سلبيا”، والمسؤول لم يعطيهم أي إجابة أو رد.
“متطوع”
حتى اليوم لم يصدر أي بيان أو موقف رسمي من وزارة التربية التركية توضح فيه الأسباب التي دفعتها لقرار الفصل التعسفي، بينما تحدث صحفيون وناشطون أتراك أن الأمر تتم معالجته حتى الآن، من دون التأكد ما إذا كان الأمر في السلب أو الإيجاب.
جلال ديمير مدير أحد مخيمات السوريين في غازي عنتاب كان قد قال في وقت سابق في منشور له عبر “فيس بوك” إنه تم التواصل مع “المديرية العامة لدائرة التعليم مدى الحياة”، وسيتم إرسال قائمة بأسماء المدرسين المفصولين، وإعادة التدقيق بهذه القائمة.
وأضاف ديمير أن قرار فصل بعض المعلمين في عدة ولايات هو قرار خاص بالمدرس نفسه وليس عام وله عدة أسباب، بينها عدم الالتزام بالدوام، ونقص بعض الأوراق الشخصية، بالإضافة إلى الأمور القضائية، والتغيب عن المدرسة بدون إذن، والإخلال في بنود العقد الأخلاقي.
لكن ما سبق من الأسباب التي ذكرها ديمير أكد المدرسون المفصولون في تصريحاتهم لـ “موقع الحرة” أن لا وجود لها بالنسبة لهم، وأن أسباب الفصل لا تتعلق بها، كونهم ملتزمون بالدوام ومستكملين لأوراقهم الشخصية.
ويحمل المدرسون السوريون في مراكز التعليم السورية المؤقتة صفة “المتطوع”، فهم غير موظفين ولا يخضعون للنظام الوظيفي الذي يخضع له الموظفون الأتراك.
وكانت منظمة “يونيسيف” قد وقّعت عقدا مع الحكومة التركية، يقضي بدفع أجور المدرّسين السوريين في تركيا، إذ يحصل المدرّس السوري على 2020 ليرة تركية شهريا، وهو الحد الأدنى للأجور في تركيا.
“مستقبل يتجدد سنويا”
وصل عدد المعلّمين السوريين “المتطوعين” في تركيا، في أغسطس من عام 2017، إلى أكثر من 13 ألف معلّم ومعلّمة، وأعلنت وزارة التربية التركية حينها عن اكتفائها بهذا العدد.
وتسير “التربية التركية” في الوقت الحالي في خطة دمج الطلاب السوريين والمدرسين السوريين أيضا في المدارس التركية، وبالتالي إيقاف العمل بمراكز التعليم المؤقتة.
وخطوة توزيع المعلمين على المدارس التركية جاءت بالاتفاق بين وزارة التربية التركية ومنظمة “اليونسيف” التي تكفّلت بدفع مرتبات شهرية (بدل تطوّع) للمعلمين السوريين منذ البدء بخطة دمج الطلبة السوريين، في بداية العام 2017.
عضو “فريق دعم التربية والتعليم” في تركيا، أحمد الأعرج، يقول في تصريحات لـ “موقع الحرة”: “لم يعد بعد الآن شيء اسمه مراكز تعليم مؤقتة، فالمدرسون السوريون بدأوا التعليم في المدارس التركية بشكل رسمي، في الفترة الأخيرة”.
ويضيف الأعرج: “العقد الموقع مع اليونيسيف لا يتضمن أي تأمين أو حقوق للمدرسين في المستقبل، كون اسمنا متطوعين”، ويتابع: “لدينا عقد موسمي يتجدد سنويا”.
وحول قرار الفصل التعسفي الأخير، يوضح الأعرج أنه لا توجد أي استنادات رسمية حول الأمر حتى الآن، لكن بعض مدراء المدارس أوضحوا الأسباب بعدم التزام المدرسين بساعات الدوام، بالإضافة إلى المخالفات القانونية المتعلقة بالمدرس السوري.
ويشير الأعرج إلى أن “فصل المعلمين أصبح معضلة وقطع باب رزق لعدد كبير منهم، ولاسيما أن التعليم يعتبر المورد الأساسي للعيش لعشرات الآلاف من المعلمين السوريين، القاطنين على الأراضي التركية”.
أثر نفسي
تترك صفة “متطوع” التي يحملها المعلمون السوريون في تركيا أثرا نفسيا عليهم، ولاسيما الذين هم الآن على رأس عملهم، ويتحسسون في أي لحظة قرار فصل، خاصةً أنهم لا يتمتعون بأي مزايا من إجازات أو تأمينات صحية واجتماعية.
عضو “فريق دعم التربية والتعليم” في تركيا، أحمد الأعرج يشير إلى أن قرار الفصل يؤثر على المعلمين الموظفين حاليا، والذين أصبح لديهم هاجسا وخوف من الفصل في أي لحظة متوقعة.
ويقول الأعرج: “ما يزيد من الخوف هي العقود التي تتجدد بشكل سنوي، بعيدا عن الحقوق المتعلقة بالضمان والأمن الوظيفي”، موضحاً أن مستقبل المعلمين السوريين غامض جدا، ولاسيما في ظل عمليات الدمج التي تسير حاليا ضمن مشروع “PIKTES” التركي.
ووفق المشروع تكون تبعية المعلمين السوريين في تركيا قد نقلت من “يونيسيف” إلى “التربية التركية”، وهو مشروع تعليمي كانت وزارة التعليم التركية قد أطلقته مؤخرا، ويستهدف الطلاب المقيمين تحت الحماية المؤقتة، بهدف الإسهام في حصولهم على التعليم في تركيا، وتغطى ميزانيته من قبل الاتحاد الأوروبي.
المصدر: الحرة. نت