ازدحمت وسائل التواصل الاجتماعي بمظاهر رفض ممارسات الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وأعلن السوريون، من خلالها، موقفهم الداعي إلى نزع الصفة التمثيلية للائتلاف عن الثورة السورية أو “المعارضة”، واعتباره طرفا ينضم بأفعاله إلى النظام السوري، كأحد أطراف النزاع معه على حريتهم وآليات انتخاب ممثليهم، بعد أن مارس رئيسُه، في وقت سابق، أكبر عملية استخفاف بالسوريين، عندما قرّر الاستفراد بقيادة الائتلاف بعملية مقايضة مع منصبه في هيئة التفاوض، متنازلاً عنه لخليفته أنس العبدة الرئيس السابق للائتلاف، ليحل مكانه في عمليةٍ استفزّت مشاعر جمهور الثورة الذي يفترض أنه مرجعيتهم الشعبية في مواجهة جمهور الموالين لنظام بشار الأسد.
ويأتي قرار إنشاء مفوضية للانتخابات، الموقع من نصر الحريري (رئيس الائتلاف بالمقايضة)، بعد أشهر قليلة على موجة الغضب الشعبي ضد الائتلاف، لتكون الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وتحسم الجدل بين كثيرين من موالي الائتلاف الذين راهنوا، في فترات سابقة، على إصلاحه، وكنت منهم، سواء في أثناء عضويتي في الائتلاف، أو تسلمي مهمة نائب الرئيس فيه، أو بعد استقالتي منه، والقطيعة التي كانت احتجاجا على ارتكاباتٍ تراكمت، من منع بياني المطالب بإجراء تحقيق في عمليات قتلٍ للسوريين على الحدود السورية التركية، إلى المطالبة بإحالتي إلى التحقيق بسبب مقالاتي في “العربي الجديد”، ومنها “اعتراف واعتذار إلى الشعب السوري” (16/9/2016) لمنعي من نقد “الائتلاف” والمصارحة بما يحدث داخله مع عموم السوريين الذين يمثلهم. ومع ذلك كله، بقي التعويل على الأمل بأن يتخذ بعض أعضاء “الائتلاف” المبادرة في إصلاح مسيرته، إلى أن هتكت “المقايضة في انتخاباته الحريري مقابل العبدة” كل احتمالٍ لإصلاح.
لم يكن ما حدث في انتخابات مجلس شعب النظام السوري، في يوليو/ تموز الماضي، أكثر استفزازا للسوريين مما حدث في مؤسسةٍ يفترض أنها تمثل مشروعية حلمهم في إقامة الدولة الديمقراطية، وإنهاء استبداد الأجهزة القمعية داخلها، ليستبينوا بأنهم وقعوا تحت ظل “مؤسسة” تمارس عليهم وفق إمكاناتها (ما هي؟) أكثر عمقا، من مجاراة النظام في إطلاق صفات المندسين والمتآمرين على معارضيه في إدلب الصامدة بوجه عدوان النظام من جهة، وعدوان جبهة النصرة وأمثالها على أهلها من جهة ثانية، وسط إمعان المعارضة الممثلة بالائتلاف بتمثيل الثورة وجمهورها رغما عنهم، ومن دون أن ييسروا لهم أي أملٍ بسبل الخلاص منهم، ليكونوا أول معارضةٍ، ربما في التاريخ، تمثل شعبا لم يشارك في اختيار أعضائها، أو لا يتشارك معها في أهدافها، أو لا يستطيع أن يحاسبها على اقترافاتها.
كسب “الائتلاف” بإنشاء مفوضية الانتخابات، وفق القرار الصادر عنه تحت الرقم 24 في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، ما راهن عليه مسبقا، وهو تمثيل الإرادة الكاملة للدولة التي تستفيد من وجوده، رغما عن إرادة السوريين جميعهم، وما يعني ذلك له من أن يكون المقابل مجزياً لأشخاصه ومصالح الدولة التي دفعته إلى تمرير هذا القرار لمشاركة النظام في السلطة، وبما يعادل كل هذا الغضب الشعبي تجاه قراراتهم، في الوقت الذي يضمن فيه ممثلو المعارضة أن هذا الاستنكار من عموم السوريين الواقفين، حسب تصنيف النظام، على ضفة الثورة، لا يحمل أي قوةٍ قانونيةٍ أو تنفيذيةٍ لاستبعادهم أو استبدالهم بهيئاتٍ ينتخبها الشعب لتمثيل إرادته، تماما كما هو واقع هيئات المعارضة، مع فارق مرحلي أنها اليوم تستمد قوتها من الدول التي ترعاها إلى حين تحصيل هذه الدول مصالحها، في حرب تصفيات النفوذ الدائرة حالياً من كل الجهات الدولية المتصارعة والمتحالفة في آن معاً في سورية.
قد يفيد التنبيه إلى أننا نكتب عن جهاتٍ معنيةٍ بإرادة السوريين، إلى المخالفات الجسيمة التي ارتكبها “الائتلاف” بقراره إنشاء مفوضية الانتخابات، سواء لجهة نظامه الداخلي الذي يوضح أنه لن يكون له وجود عندما يكون هناك ما يبرّر انتخاباتٍ تشارك فيها المعارضة، أو لجهة تضليله جمهور الثورة بأن القرار تنفيذ لبيان جنيف الذي لم يأت على ذكر مثل هذه المفوضية، لأن الهيئة الحاكمة التي عوّل عليها البيان هي المعنية بمثل هذه القرارات، ووجود الهيئة الحاكمة الانتقالية تنهي أساساً وجود “الائتلاف”، وحتى مع التحايل الدولي على بيان جنيف، ونسفه مصلحة السلال الأربع التي أقرّها المبعوث الأممي السابق، ستيفان دي ميستورا، فإننا أمام خديعةٍ مبنيةٍ على مجموعة أكاذيب بتوقيع من رئيسٍ جاء باتفاقية مقايضةٍ ليحكم سلطة وهميةً مصغرةً ومشوهةً لمحاكاة سلطة الأسد التي يمتلك فيها الأسد أدواتٍ جغرافية وواقعية وجمهور موالين لا يمكن إنكار وجوده، في وقتٍ يتحدّث فيه “الائتلاف” باسم جمهورٍ يرفضه ولا يريده، ويرفع في وجهه شعار “الائتلاف لا يمثلني”.
لم يبق لجمهور الثورة إلا الاستنجاد بروسيا، ومن خلفها حليفها النظام السوري، لمنع تمثيل “الائتلاف” ثورتهم، في مفارقة غريبة وفريدة، بأن يحمي رئيس النظام بشار الأسد جمهور المعارضة الذي ثار ضد حكمه، من طموحات وأطماع قياديي مؤسسات المعارضة في اغتصاب حقهم في اختيار ممثليهم، وذلك برفض التنسيق معهم في انتخاباته القادمة، وإبقاء حالة العداء بين جمهور المعارضة ونظامه على حالتها الأولى قبل أن تولد هذه المؤسسات التي اغتصبت تمثيلهم، كما فعلت مؤسسات النظام بل وبصورة أكثر جرأة وبعيدة عن أي اعتبار لكرامتهم.
لم يعد حلفاء النظام وحدهم المتهمين، من كثيرين من جمهور الثورة، بإعداد مؤامرة تنهي ثورتهم، وحلمهم الذي دفعوا أثمانا باهظة لتحقيقه، وبفضل صمودهم أمام وحشية النظام وحلفائه، وأجبروا العالم على استصدار بيان جنيف وقرار مجلس الأمن 2254، ونحو عشرين قرارا أممياً لمساندة حقهم في إقامة نظام ديمقراطي، لا طائفي، ينهي عهد الاستبداد والقمع، ويتيح لكل السوريين حياة كريمة في بيئة آمنة تحفظ كرامتهم وحياتهم. لم يعد أولئك وحدهم المتهمين، فشعار “الائتلاف لا يمثلني” الذي يجتاح منصات التواصل الاجتماعي اليوم يوضح تصنيف السوريين “الائتلاف”، ويعتبر أن قرار هذا التشكيل، إنشاء مفوضية الانتخابات، أنهى أواصر علاقته مع جمهور الثورة، العلاقة التي لم تكن موجودة أصلاً، وكان يعوّل على حكماء من “الائتلاف” في بنائها، بدل هدمها وتدميرها.
المصدر: العربي الجديد