في الطريق من مكتبي إلى منزلي في “مشروع دمر” والذي يحمل أسم “ضاحية الشام الجديدة” كان الظلام مخيم على الطرقات، وحتى في الأبنية المطلة رغم بعض الأنوار الخافته المنبعثة مما يسمى “اللدات” أو الشموع وهي فرصة يومية أمارس فيها هوايتي اليومية بالتحدث مع نفسي أبثها همومي بعد أن غادرني الأصدقاء…
وما كدت أفتح باب البيت حتى انبعثت رائحة القهوة ، أم عصمت وجارتنا أم لؤي “المخرجة التلفزيونية المعروفة” وابنتي رؤى وحفيدتي رند … والأصوات تنبعث غاضبة حيناً، خافتة أحياناً عن الخبز والبنزين والمازوت والسكر و… وبعد إلقاء التحية، ومع أول رشفة من فنجان القهوة ووجهت بسؤال استنكاري: إلى متى ستبقى صامتاً ؟ ليس لدينا خبز، الخبز السياحي ليس خبزاً… قلت ممازحاً: ما رأي السيدات الجميلات أم عصمت وأم لؤي أن يتوجهن معي إلى الفرن علَ المشهد يوحي للسيدة أم لؤي بالعودة إلى الدراما وربما نعود ببعض الأرغفة، ولم يخطر لي للحظة واحدة أن تتحول هذه الممازحة إلى جد، وهنا كانت المفاجأة : تحمست السيدتان وجاء الجواب – ما بيجيبها غير نسوانها – وتسلحتا بالبطاقة الصفراء المنقذة للاقتصاد الوطني – ووقفتا تلقيان الأوامر: تفضل لنذهب إلى الفرن، ولم يكن أمامي طريق للهروب فقلت: بشرط لن أنزل من السيارة فقالتا: ونحن نرفض أن تنزل تفضل.
وهكذا كان علينا أن نستعين بضوء “الموبايل ” كي ننزل الدرج … ثم توجه موكبنا المهيب إلى فرن المشروع ، وكانت الساعة حوالي العاشرة ليلاً، ومن حسن الحظ كان هناك مكان لركن السيارة أمام باب الفرن .
كان المنظر مهيباً بالفعل ثلاثة أرتال طويلة – مدني – عسكري – نساء – يتخللها من يحاول التجاوز من كل الاتجاهات رغم الاكتظاظ ، واستزكرت أنشودة الوزير المختص عندما قال: “أن المواطنين في بلدنا ليس لديهم ثقافة الوقوف في الطابور” صحيح لماذا لا تضاف هذه المادة للتدريس في المدارس؟
المهم، كان المشهد – رغم الهيبة – مروعاً ، وبالتالي لا بد من العودة، فتوجهت إلى السيدتين وقلت متحدياً: تفضلن بالنزول ، فجاء الجواب خافتاً: لنعد إلى البيت، وهنا كان لا بد أن أستعرض عناصر قوة موقفي فقلت لهن وأنا أحرك السيارة: ألم أقل لكن…؟ ولم يخطر لي أن التحدي سيفعل فعله، فصرخن: توقف ، وغادرن السيارة للاصطفاف في رتل النساء، وهنا شعرت بتأنيب الضمير، لكن لم يعد باليد حيلة فالمشهد لن يكون لطيفاً لو نزلت وحاولت إعادتهما … فتكومت في مقعدي أراقب المشهد الذي تضيق العبارة عن وصفه …صراخ، شغب، غضب، سخرية، صراع، مشهد تراجيدي، وبدأ الوقت يمضي، وبعد أكثر من نصف ساعة من الانتظار … غابت أم لؤي وأم عصمت عن الأنظار ضمن الرتل الذي دخل باحة الفرن.
في مقعدي بالسيارة بدات أراقب المشهد، كان البعض يخرج من الفرن فرحاً يتقبل التهاني أنه حصل على الخبز، والبعض الآخر يخرج منهكاً، والبعض الثالث يخرج غاضباً، لكن الجميع يحتاج إلى أن يأخذ نفساً عميقاً فيلقي بخبزاته عل مقدمة سيارتي ريثما يستعيد أنفاسه ثم يجمع خبزاته ويمضي…وبدأت أتساءل إلى أين سيودي بنا هذا المشهد…؟ لكن سرعان ما طردت السؤال، المهم ما هي حال السيدتين اللتين وافقت على أن تكونا في هذا الموقف؟ هل ستحتملان كل هذا؟ لماذا فعلت ذلك؟
فجأة لفت نظري خروج فتاة بعمر الورود ترتدي معطفاً بنفسجياً تبتسم بفرح وهي تتلقى التهاني ثم تصل إلى أمام مقدمة سيارتي وتلقي عليها ربطات الخبز الثلاث ثم تأخذ نفساً عميقاً وتتحدث مع الآخرين، وفجأة انتبهت أنني وراء المقود في السيارة فرفعت يدها بالتحية ثم اقتربت من شباك السيارة وقالت: كيف ستحصل على الخبز وأنت هنا؟ قلت لها: أنتظر الفرج فرفعت يدها مودعة وجمعت ربطات الخبز الثلاث وأدارت ظهرها مغادرة وأحسست بارتباكها ، لكنها وفجأة استدارت وألقت بربطة خبز على المقعد بجانبي وهي تقول: هذه لك لا تحاول أن تعطيني ثمنها … واستدارت على الفور مغادرة، صرخت كي أوقفها نزلت من السيارة لكنها كانت قد غادرت مسرعة واختفت في الزحام….
وما كدت أحاول استيعاب ما حصل حتى ارتفع الصراخ والشتائم بين شابين أحدهما يلف حول عنقه شال أحمر والآخر شال أزرق ثم تطور العراك إلى دخول متعاركين آخرين بإلوان مختلفة أسود وأصفر و… إلى ساحة المعركة ، وهممت بالنزول للمساهمة بفك الاشتباك ، لكن فجأة أغمضت عيني وتكورت في مقعدي مالي، وما يجري؟ لتستحضر الذاكرة ذلك المشهد المأساوي الهزلي: ترامب، بايدن، أردوغان، خامنئي، بوتن، ماكرون، وحكام الغفلة من أبن أبن زايد على الخليج إلى أبن حسن الثاني على المحيط وما بينهما، أين لوني أنا…؟ إنه غائب عن ساحة الصراع تلك علي أن أمتلك القوة اولا كي اكنس الجميع.
عدت إلى الهدوء وكأنني لا أرى ما يحدث أمامي واسترجعت ذلك اللون البنفسجي الحزين المعطاء، ذلك البنفسج الذي يبهج رغم كل هذا الحزن.
وما كدت أفيق من تداعيات ما جرى حتى رأيت أم عصمت وأم لؤي تغادرن الفرن منهكات وبيد كل منهن ربطة خبز … فتحن باب السيارة، صعدتا وفوجئتا بربطة خبز إلى جانبي، فنظرت إلي أم عصمت متفحصة وكأن الغيرة فعلت مفعولها من حيث لا تدري وقالت: من أين هذه…؟ فغنيت لها: ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين…؟ وانطلقنا إلى البيت وكان وصولنا قبل الساعة الثانية عشرة منتصف الليل بببضع دقائق فاقترحت السيدتان أن نبقى في السيارة إلى ما بعد الثانية عشرة موعد عودة الكهرباء ، لكن الساعة تجاوزت الثانية عشرة ولم تأت الكهرباء فصعدنا الدرج في العتمة لتستقبلنا حفيدتي رند: جدو حمد الله على السلامة يا جدو.
فغنيت لها: ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين…؟
هكذا في دنيا العرب فقط تولد البهجة من قلب الأحزان… حيث أستذكر ذلك النقاش الذي دار بين صديقين لي يتناقشان: الأول يستنكر كيف حبيب عيسى رغم كل ما يجري يتحدث عن ياسمين دمشق، أي ياسمين هذا؟ فيرد عليه صديقي الآخر مدافعاً عني، لكن صديقي الأول يخرج عن طوره ويقول له متهكماً: لندع أبو عصمت ينعم بذلك الياسمين… الأثنان على حق… الحلم مشروع، لكن دمشق ليست بنعيم الياسمين…
انها محنة وستمضي …وصباح الياسمين يا دمشق.
385 4 دقائق