ماذا يعني انتخاب جو بايدن بالنسبة للسياسة الأميركية في سوريا؟ لقد تواصلت الحرب السورية خلال السنوات الأربع الماضية التي ظل فيها بايدن بعيداً عن السلطة، لكنها ظلت تمثل نزاعاً محلياً وإقليمياً بقي بلا حل، بل بوسع هذا النزاع أن يسبب صداعاً للإدارة الأميركية الجديدة.
ثم إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان له سجل متضارب حافل مع سوريا، فمن جهة أولى تخلى ترامب عن سياسة سلفه أوباما بالسعي بشكل فعال لإسقاط بشار الأسد، فقطع الدعم عن المعارضة المسلحة في عام 2017. ومن جهة أخرى شن ترامب غارات صاروخية على قوات الأسد بعد استخدامها للأسلحة الكيماوية في عامي 2017 و2018، ووافق على فرض عقوبات قيصر القاسية.
وفي المنطقة الشرقية بسوريا، واصل ترامب سياسة أوباما المناهضة لتنظيم الدولة الإسلامية، فدعم قوات سوريا الديمقراطية الكردية، لتدمير دولة الخلافة وقتل زعيمها، أبو بكر البغدادي. لكنه بعد ذلك تخلى عن حلفائه السابقين، وسمح بقيام عملية عسكرية تركية في عام 2019 عقب انسحاب معظم القوات البرية الأميركية من البلاد، مخلفين وراءهم مجرد هيكل لقوات ترابط حول حقول النفط السورية.
وبالطريقة ذاتها اتخذ ترامب مواقف متناقضة حيال الفاعلين الخارجيين الكبار في سوريا، حيث دخل بمواجهة مع إيران، التي تعتبر من أهم حلفاء الأسد، بينما استوعب الحليف الآخر، وهو روسيا، ثم بدا عليه أنه على استعداد لسماع طلبات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مخالفاً بذلك نصائح قادة الجيش الأميركي في بعض الأحيان. ونتيجة لذلك تقلص نفوذ واشنطن الذي كان محدوداً بالأصل طيلة سنوات حكم ترامب الأربع.
والآن هل سيحاول بايدن زيادة التدخل الأميركي؟ هنا لابد أن نتذكر دوره في سياسة أوباما حول سوريا عندما كان نائباً للرئيس، إذ بخلاف وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، شكك بايدن بفكرة التورط بشكل عميق في الحرب السورية، ولم يتحمس لفكرة تسليح المعارضة مخافة أن يظهر متطرفون بين صفوفها.
كما دعم بايدن، مثله مثل غالبية الوزراء في حكومة أوباما، فكرة توجيه ضربات للأسد في عام 2013 وذلك عندما استخدمت الأسلحة الكيماوية للمرة الأولى. ولكن عندما قرر الرئيس أن يلجأ إلى التفاوض على نزع ذلك السلاح الكيماوي عوضاً عن توجيه ضربات للأسد، دعمه بايدن في ذلك أيضاً. وفي وقت لاحق، وتحديداً في عام 2016، عبر نائب الرئيس عن شديد أسفه لمن انتقدوا ضآلة ما فعله أوباما تجاه الأسد، رافضاً بذلك مقترحاتهم التي وصفها بأنها غير واقعية أو مجدية.
الأولويات على الصعيد الداخلي
إن التصريحات التي أدلى بها بايدن مؤخراً توحي بأن سوريا ستحتل مرتبة متدنية ضمن سلم أولوياته، إذ بعد هزيمة تنظيم الدولة، لم تعد الحرب السورية تحتل عناوين الصحف في الولايات المتحدة، وقد سبق أن أشار بايدن إلى أن الأولوية ستنتقل للتركيز على نواح أخرى.
إذ إن القضايا الداخلية وعلى رأسها جائحة كوفيد-19 وما يتصل بذلك من ركود اقتصادي هي أكثر ما يشغل بال بايدن ويسترعي انتباهه، ولهذا من المحتمل أن تركز أولويات سياسته الخارجية على تعددية الأطراف، وعلى التوجه نحو آسيا، وعلى الصين، وعلى التغير المناخي.
أما بالنسبة للشرق الأوسط فقد تعهد بايدن بالعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، بشرط أن تلتزم إيران بما ورد فيه من بنود، بينـما ألمح فريقه إلى اتخاذ موقف أكثر حزماً تجاه السعودية، إلى جانب التركيز على إدارة أمور الحلفاء الذين يصعب التعامل معهم وعلى رأسهم إسرائيل وتركيا.
وفي الوقت الذي أسهب فيه بايدن بالحديث عن رغبته بدعم الأنظمة الديمقراطية في كل أنحاء العالم عموماً، وفي الشرق الأوسط خصوصاً، يتبين لنا بأن تركيزه ينصب على مكافحة الإرهاب أكثر من تغيير الأنظمة. إذ إلى جانب تصريحاته الأخيرة حول إنهاء الحروب الأبدية ومعارضة فكرة زيادة القوات الأميركية على الأرض، يعكس كل ذلك بأن بايدن لن يسارع إلى زيادة أسهم واشنطن في النزاع السوري.
ولكن من غير المحتمل أن يتراجع عن ذلك أيضاً، فلقد أكد مستشارو هذا المحارب القديم من الحزب الديمقراطي بأنه سيبقي العقوبات القاسية على دمشق، كما سبق لنائب الرئيس المنتخب كامالا هاريس أن انتقدت الأسد. وبالرغم من أن العقوبات تهدف إلى زيادة الضغط على الأسد حتى يتم التوصل إلى تسوية، أو على الأقل حتى يتم الضغط على موسكو لتستبعد الأسد وتأتي بشخص يقوم بذلك، إلا أنه من الصعب بالنسبة لهذه الجهود أن تصل إلى مبتغاها.
مواصلة الضغوطات
بالنسبة للأسد قد تبدو سياسات بايدن شبيهة بسياسات ترامب، لكونها ستقوم على مواصلة الضغوطات المالية، دون القيام بأي تصعيد عسكري حقيقي أو الاستثمار بطريقة دبلوماسية بشكل يدفع نظام دمشق بقوة نحو الانهيار أو تقديم تنازلات.
أما بالنسبة للمنطقة الشرقية، فقد ذكر بايدن أنه سيبقي فرقة صغيرة من القوات الأميركية لتقوم بحراسة المنطقة ومنع عودة تنظيم الدولة إليها، وذلك في الوقت الذي عبرت فيه هاريس عن ذعرها ودهشتها جراء تخلي ترامب عن الكرد في عام 2019. وهذا بحد ذاته يعني تجديد التحالف بين قسد والولايات المتحدة، إلا أن هذا قد يعقد الجهود الرامية لتحسين العلاقات مع تركيا كما أنه لن يستمر سوى لفترة قصيرة وهذا ما اكتشفه ترامب من قبل.
وبالفعل، كما حدث خلال فترة ولاية أوباما، قد تجد السياسة الأميركية تجاه سوريا نفسها تتجه نحو أولويات في مناطق ونواح أخرى. فقد يستخدم بايدن سياساته ضد الأسد للضغط على إيران في الاتفاق النووي، لكنه قد يقوم بالطريقة ذاتها بتخفيف تلك الضغوطات إن احتجت طهران على ذلك. ومن خلال ذلك نستشف بأن عداء بايدن لروسيا يفوق عداء ترامب لها، ولهذا قد يستخدم سياسته في سوريا ليجابه موسكو بالرغم من أن العمليات المعادية لبوتين خلال فترة أوباما ركزت على أوروبا بشكل أكبر.
هذا وقد يتم رسم السياسة الأميركية تجاه سوريا بناء على وضع العلاقات الأميركية مع إسرائيل وتركيا، فإذا أصبحت العلاقات دافئة مع إسرائيل، عندها من المحتمل أن تشهد سوريا المزيد من الغارات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية، أما إذا ساءت، فعندها قد يشجع بايدن على وقف تلك الغارات. وبالطريقة ذاتها، قد يبعد طموح تركيا قوات سوريا الديمقراطية عن حدودها، إلا أن ذلك منوط بعلاقاتها مع واشنطن، تماماً كما حدث خلال السنوات الماضية.
تحديات كبيرة
بالمختصر يمكن القول: لا تتوقعوا من بايدن تغيرات كبيرة تجاه سوريا، لأنه من المرجح أن يتبع المنهج الحذر ذاته الذي اتبعه عندما كان نائباً للرئيس تجاه هذا النزاع، ومن غير المحتمل بالنسبة له أن يقوم بزيادة التدخل العسكري الأميركي في سوريا، كما ذكر أنه لا دوافع قوية لديه تحثه على التراجع عن السياسات الأميركية القائمة حالياً، أي أنه سيحتفظ ببعض الجنود في المنطقة الشرقية وسيبقي العقوبات المفروضة على الأسد.
وبما أن أولويات بايدن تتجه نحو نواح أخرى، لذا من المرجح للسياسة الأميركية تجاه سوريا ألا تتغير اللهم إلا بوجود حدث كبير على الأرض، أو في حال تأثر الأولويات الخارجية لواشنطن بذلك. فالسياسة الأميركية تجاه إيران وتركيا وروسيا وإسرائيل قد يكون لها آثار وعواقب في سوريا، ولكن في الوقت الحالي، من غير المرجح أن يقوم بايدن بزيادة رأسماله السياسي في النزاع السوري بمعزل عن كل ذلك.
وثمة نقطة أخيرة لا أحد يعرف كنهها حتى اليوم وتدور حول إمكانية أو عدم إمكانية قيام سلف بايدن بترك سوريا وشأنها خلال الأسابيع العشرة المتبقية له في السلطة. ففي الوقت الذي يرجح فيه البعض أن يركز ترامب على تحدي شرعية هزيمته في الانتخابات، يرى آخرون أنه قد يستغل في الوقت ذاته آخر أسابيع له في السلطة لتدمير بايدن. وقد تصبح سوريا ساحة لتحقيق ذلك، إذ لعل ذلك قد يتم عبر وفاء ترامب بوعده المتمثل بسحب آخر من تبقى من قوات أميركية في المنطقة الشرقية. وفي الوقت الذي يبدو فيه ذلك بعيداً، إلا أننا لا ننكر بأن ترامب صدمنا كثيراً طيلة فترته الرئاسية. إذن حتى في ظل غياب هذا الانقلاب النهائي للأمور، سيواجه بايدن تحديات كبيرة تتمثل بإعادة تلميع سمعة واشنطن على المستوى العالمي. وفي الوقت الذي ستحظى سوريا فيه بشيء من الاهتمام في هذا السياق، لا يمكن القول إنها ستحتل مركز الصدارة في كل ذلك.
المصدر: ميدل إيست آي/ موقع تلفزيون سوريا