بينما كنت أتابع (المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين السوريين) الذي انعقد في دمشق في اليومين السابقين 11 – 12 نوفمبر تذكرت كتاب المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ (اللاعقلانية في السياسة العربية)، وتذكرت على نحو خاص تفريقه بين سياسات الدول وفقا لمعيار التفكير العلمي لا الأيديولوجي ولا السياسي ، وقد وضع المؤلف دولا كأميركا والاتحاد السوفياتي وبريطانيا والصين في خانة واحدة ، كأمثلة للسياسة العقلانية ، ووضع الدول العربية في خانة الدول التي تنتهج سياسات غير عقلانية ولا تقوم على التخطيط العلمي . تذكرت الكتاب بعد 45 عاما على قراءته (1975 ) لأن المؤتمر المذكور مثال واقعي عن السياسة اللاعقلانية واللاعلمية ، ومثال صارخ عن انحطاط السياسة الخارجية لروسيا البوتينية التي تورطت في تنظيم وعقد هذا المؤتمر الفريد والقياسي بكثرة المهازل التي تضمنها ، كما سنرى .
المؤتمر روسي بالكامل ، وعقده في دمشق لا يعني أنه سوري أبدا ، بل يعني أن سورية أصبحت في الواقع جميهيرية ( تصغير جمهورية !) روسية . ولو أن وزارة الخارجية الأسدية سعت بقيادة وليد المعلم وبشار الجعفري وأيمن سوسان لتنظيم مؤتمر دولي حول مأساة اللاجئين السوريين في العالم ، أو أي مسألة أخرى لما استجابت دولة واحدة ، ولا حتى أفخازيا .
حتى في أيام عز النظام السوري واستقراره بين عام 1970 ، وحتى دخوله عزلته الدولية والعربية والاسلامية والاقليمية النهائية عام 2011 لم يسجل لديبلوماسيته نجاح في تنظيم مؤتمر تحضره ثلاثون دولة دفعة واحدة .
وللعلم فدمشق لم تستضف من مؤتمرات القمة العربية ، سوى واحد ، طوال تاريخ الجامعة العربية !
فكيف تسنى لهذا النظام المعزول بسبب فقدانه الشرعية الدولية حشد ثلاثين دولة في مؤتمر واحد في دمشق لبحث ( مشكلة اللاجئين السوريين في الخارج ) ؟
سؤال لا يثير دهشة أو حيرة أحد ، لأن الجميع من أصغر مواطن أو لاجىء سوري ، الى أكبر مسؤول أو مراقب في العالم يعلم أن هذا الانجاز الديبلوماسي – إذا جاز وصفه بهذه الصفة – لا يحسب حتما للأسد وحكومته ووزارة خارجيته العاطلة عن العمل منذ سنوات ، وإنما يحسب للرئيس الروسي بوتين ووزيره لافروف ، ويعلم الجميع أيضا أن صاحب المصلحة من المؤتمر هو بوتين شخصيا ودولته ، كما يعلم الجميع أن الأسد لا يرغب ، ولا يريد عودة اللاجئين أصلا ، ولو أراد ذلك لما هجرهم بالقوة اصلا وصادر ممتلكاتهم وعقاراتهم . فقد أفصح مرارا عن رفضه القاطع لعودتهم ، وأعطى تعريفا جديدا لمن يكون المواطن السوري في مملكته ، ولما أصدر المرسوم ( 10 لعام 2018 ) الذي يشرع مصادرة أملاك المواطنين الفارين من الحرب .
هذا المؤتمر يندرج في سياق محاولات بوتين – لافروف لشحادة أموال من الدول الاوروبية والعربية بحجة إعادة بناء سورية بعد أن انتهت الحرب ، وعندما رفضت كل دول العالم ، وخاصة المذكورة ، المشاركة في هذه المبادرات الاحتيالية ، وطالبت بوتين بالضغط على الأسد لإيجاد حل سياسي جدي أولا يلبي شروط ومعايير الحل السياسي الواردة في وثيقة جنيف 2012 ، وقرار مجلس الأمن 2254 / 2015 . وعندما فشل الثنائي في تسويق بضاعتهم السابقة ، اخترعا حجة جديدة هي إعاد اللاجئين ، وطالبا التعامل معها ( كقضية انسانية) بدون تسييس . ويقال إن الأسد رفض هذا المؤتمر جذريا لأنه يرفض عودتهم فعلا ، لكن بوتين ضغط عليه ليقبل ، فكان هذا المؤتمر . وبذل بوتين ولافروف أقصى جهودهما لتوفير عدد من الدول تحضر وتشارك وتبصم على البيان الختامي ليقول إن المؤتمر نجح ، يقنع الدول الغنية بجدية الانجاز . ولكن الحصيلة كانت أكثر هزالا ومهزلة مضحكة – مبكية .
الأكثرية الساحقة من الدول التي لبت الدعوة تحت ضغط موسكو دول لا علاقة لها من قريب أو بعيد بمشكلة اللاجئين السوريين ، مثل سريلانكا ، وأفخازيا ، وكوريا الشمالية ، والفلبين ، ونيجيريا ، وفنزويلا ، وكازاخستان ، والفاتيكان ، وباكستان ، وكولومبيا ، والارجنتين ، وصربيا ، والصومال ، والهند ، وقرغيزيا .. وهلم جرا . وكافة هذه الدول غير مستعدة للتبرع بدولار واحد .. فلماذا تدعى ولماذا تلبي ..؟!
وهل هناك مهزلة أو لعب أكثر من هذا ؟!
الجدير بالذكر أن كل هذه الدول شاركت بسفراء رفعا للعتب وحسب ، وليس بينها أي دولة شاركت بوزير واحد ، بما فيها روسيا وسوريا اللتان غاب وزيرا خارجيتهما أيضا . أما الاستثناء الوحيد فهو لبنان الذي تمثل بوزيرين ، وزير الخارجية شربل وهبة ، ووزير الشؤون الاجتماعية رمزي مشرفية !!
الدول العربية التي شاركت هي فقط لبنان ( والسبب مفهوم طبعا ) وموريتانيا وعمان ، وزعمت موسكو أن مصر والاردن وعدتا بالحضور ثم تراجعتا تحت ضغوط الولايات المتحدة . وقال مساعد وزير الخارجية السورية ايمن سوسان أنهم دعوا جميع دول العالم عدا تركيا . ومع أن الأردن يعاني من وطأة مليون ونصف مليون لاجىء سوري ، وهي مثل لبنان أحوج ما تكون لتخفيف الأعباء عنها ، وايجاد حلول للمشكلة ، فإنها اعتذرت عن عدم المشاركة ، رغم علاقاتها الجيدة مع روسيا ومع نظام الأسد ، لأنها تدرك طبيعة هذا المؤتمر الهزيل ، وحقيقة أغراضه وعدم جديته على الاطلاق .
لقد سبق أن جرب بوتين حظه في الضحك على ذقون العرب والاوروبيين وفشل ، وعاد ليجرب حظه ، لا لأنه غبي أو يرخص نفسه ، ولكن لأنه محشور ومضغوط ، فهو لم يحقق أي اختراق يذكر على صعيد الحل السياسي ، وهو في أزمة اقتصادية ، ويتعين عليه أن يعيد التجربة مرة بعد أخرى ، بحثا عن انجاز أو اختراق يستر به عورة هزيمته ، قبل أن تنتقل الادارة في واشنطن الى بايدن الذي يقال إنه متشدد حيال موسكو بصفة عامة .
كلمة بشار الأسد أمام المؤتمر نسخة مكررة من الوقاحة والبذاءة ، إذ أنكر أن يكون هو وعصاباته المسلحة من تسبب بتهجير 14 مليون سوري من بيوتهم وبلادهم بواسطة القصف الوحشي والمجازر والبراميل والاعتقالات والتجويع وكل فنون الاجرام والارعاب التي ابتكرها . والقى التهمة على المعارضة وعلى الدول الأخرى التي قال إنها تتاجر بمآسي الشعب السوري . وقال إن الدولة تعمل كل ما في وسعها لاعادة السوريين الى بلادهم ، ولكنه لم يذكر أن جيشه وشبيحته واستخباراته قتلت نحو 700 شخص ممن عادوا من لبنان ، وأن سكان جوبر منعوا من العودة رغم مرور ثلاث سنوات على إجراء ( المصالحة ) بين الثوار والنظام !
المهجرون من ريف دمشق وحمص الى شمال سورية وادلب ، والفارون من بطش النظام وهم بالملايين رفضوا تصديق ما يقال داخل مؤتمر دمشق في اليومين السابقين ، ورفضوا مجرد التفكير بالعودة الى مناطق النظام ، وفي ظل السيطرة الروسية ، واصدروا بيانات عديدة تسخر من المؤتمر ومن كلام الأسد وبوتين ، وجددوا تأكيدهم على أنهم لن يعودوا الى قراهم ومدنهم إلا بخروج الأسد ، واجراء تغيير سياسي ، وبضمانات دولية قوية ، لأنهم يعرفون مصيرهم سلفا ويعرفون أساليب واكاذيب النظام الذي لم يسجل له الوفاء مرة واحدة بعهوده ووعوده لهم ، هذا فضلا عن الظروف المعيشية المأساوية المترتبة على الأزمة الاقتصادية الخانقة والطاحنة .. فإلى أين يعودون ..؟ ومالذي يضمن سلامتهم وأمنهم من عصابات الأسد التي تنتظرهم لتشلحهم ما بقي في جيوبهم من قروش ، أو لتسوق رجالهم للتجنيد في صفوفها للحرب والموت ؟
المصدر: الشراع