مرّت سنوات أفضل على فلاديمير بوتين. لو عدنا بالوقت 12 شهراً، نجد أنّ العناوين كافة كانت تصوّره على أنه ساحر المسائل الجيوسياسية، وصاحب نفوذ مضخّم أخفى وراءه الحجم الحقيقي لمكوّنات السياسة الواقعية. في الداخل مرّت عليه حركة احتجاجية استطاع أثناءها الحفاظ على معدلات تأييد (شعبية) تفوق 70 في المئة. وفي الخارج، كان الدخيل والوسيط الفعّال في الوقت نفسه؛ كبير الأشقياء.
لكن ما حدث منذ ذلك الوقت حجّم نجم بوتين. بدأت المشاكل منذ يناير (كانون الثاني) بحيلة دستورية من أجل تخطّي حدّ الولاية أحدثت صدمة بسبب وقاحتها. وأتت بعد ذلك حرب أسعار النفط التي تفتقر إلى الحكمة والتي جعلت الإيرادات المادية المتعثرة أساساً تتدهور أكثر بعد. ثم حلّت مرحلة نفي المشكلة والوقوف موقف المتفرج في عصر كوفيد، وتبعها تلاعب على مستوى غير مسبوق خلال التصويت الشعبي على الدستور الجديد؛ فاندلاع الاحتجاجات الكبرى في الشرق الأقصى التي تتواصل إلى يومنا هذا؛ والاضطراب النامي في فناء روسيا الخلفي؛ ومحاولة شعب بيلاروس الإطاحة بأحد الزملاء من الطغاة.
والآن، دفع تسميم أليكسي نافالني- والرد الأوروبي البعيد النظر على الحادثة- بروسيا إلى موقع أكثر ظلمة وانعزالية.
لا يمكن استبعاد الرئيس المحنّك بسهولة. فهو من احتكر وأعاد تعريف النفوذ السياسي في روسيا طوال عقدين من الزمن. كما أنه يملك حسّاً للنجاة من الأزمات- وهو المسؤول عن الكثير منها- والخروج منها بأفضل حال. وقد برهن نظامه على قدرته على التكيّف. فالبوتينية نفسها تطوّرت عبر مراحل عدة – الديمقراطية الانتقائية، وما بعد الحداثة، والفساد والطغيان، وصولاً إلى وضع الاستبداد الحالي حيث لا شيء كما يبدو عليه.
لكن ثمة ما يشير إلى وقوع الرئيس ونظامه في محنة جدية. فالتوترات الداخلية الكبيرة لا تتلاشى. وقد أفضى اقتصاد المحسوبيات الراكد إلى ست سنوات من تراجع القيمة الحقيقية لمعدّل الأجور، وفرض تطبيق إصلاحات غير شعبية، وإلى تضييق مالي خلال جائحة فيروس كورونا. ونتيجة ذلك، وصلت معدلات الثقة في بوتين إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق- وفقاً لاستطلاع آراء واحد، يُقدّر هذا المعدل الآن بـ33 في المئة، أي بتراجع عن 60 في المئة منذ ثلاث سنوات. وقبل حادثة تسميمه بقليل، بدا أنّ نافالني يستغل هذه الخيبة بحملة تصويت تكتيكي فعالة ركّزت على الداخل المناطقي (الروسي).
ويقول السير آندرو وود، سفير المملكة المتحدة إلى موسكو من 1995 إلى 2000 “وصل بوتين إلى مرحلة شبه محتومة جرّاء سياسات التحكّم التي روّج لها. لا أرى كيف سيتمكن من التغيير وهو يفقد الجاذبية التي كانت نقطة قوته سنوات كثيرة”.
ويعزى جزء كبير من جاذبية بوتين في الداخل تاريخياً إلى قوته المتخيّلة في مجال السياسة الخارجية. وقد أنتج ضمّ شبه جزيرة القرم وحملة أوكرانيا مثلاً ثلاث سنوات من معدلات تأييد تخطّت 80 في المئة (استناداً إلى استطلاعات آراء مركز ليفادا، أكثر مراكز الاستطلاعات استقلالية في روسيا). لكن مع بروز مرحلة سوريا، أصبحت الصورة أكثر تعقيداً، وعكست الاستطلاعات مدى الإحباط إزاء كمّ الأموال التي أُنفقت على المغامرات العسكرية هناك.
وباتت صورة النفوذ العظيم الذي يتمتع به الرئيس موضع شك. فبعد قضائه القسم الأكبر من العقدين الماضيين في مطالبة الغرب بعدم التدخّل بما تسميه روسيا “الجوار القريب”، يكتشف بوتين أنّ نفوذه هناك ليس كما يُعتقد.
ففي النزاع على ناغورنو قره باغ، يتناقض إخفاق الدبلوماسية الروسية المتأخّرة مع نجاح التأثير التركي في ساحة المعركة الأذربيجانية. وفي قرغيزستان، كانت موسكو تأخذ موقف المتفرج من انقلاب فوضوي، وثالث انتقال مضطرب للسلطة خلال 15 عاماً. وفي أرمينيا، عجز عن منع اندلاع ثورة ولم يقبل بنتائجها سوى بعد تغيير القوى الأمنية المحلية موقفها. أما سياسته في أوكرانيا فيمكن اعتبارها كارثية- إبقاء البلاد خارج عضوية الناتو إنما مقابل جعل أمة تنقلب ضده. حين يهدأ الوضع، قد يُقال الشيء نفسه عن بيلاروس.
ويقول مكسيم ترودوليوبوف، وهو باحث رئيسي في معهد كينان “ظنّ أنه حاز جائزة ما، نوعاً من اتفاق يالطا جديد أعطاه الغرب بموجبه كل هذه البلدان كي يحكمها. لكن عوضاً عن ذلك، ها هو محاط بالنزاعات ويكتشف أنه لا يملك الموارد للإقدام على أي شيء. كل هذا يزيد عبء المسؤولية عليه بعض الشيء”.
في هذه الأثناء، زعزعت تبعات تسميم أليكسي نافالني في سيبيريا خطوط الاتصال مع أوروبا. وتبدو موسكو خائفة فعلياً من رد الفعل الواضح لأنغيلا ميركل وإيمانويل ماكرون. والأخير سرّب مزاعم بوتين العبثية إنما السرية بأن نافالني سمّم نفسه.
وشكّل فرض عقوبات شخصية على موظفي الشؤؤن السياسية العاملين مع بوتين- بما فيهم رئيس الوزراء السابق سيرغي كيريينكو- أقرب خطوة ممكن أن يقوم بها الأوروبيون إلى اتهام الرئيس نفسه بإصدار الأمر.
وقال الدبلوماسي وود “يجد الكرملين صعوبة في تفهّم أن القانون له وزن ومعنى في الغرب خلافاً لحاله في موسكو. وهذا ما يعيد إلى الأذهان مسألة طائرة “أم أتش 17″ MH17 وعجزهم عن فهم أنّ التحقيق في إسقاط طائرة مدنية لا يمكن وقفه ببساطة بأمر سياسي”.
وتعتبر الخطوة الأوروبية في فرض عقوبات شخصية على دائرة بوتين المقرّبة تطوراً جديداً. ومن ناحية أولى، لا شكّ في أنه تصرّف رمزي بشكل كبير. فالذين استهدفهم أمر تجميد الأصول ومنع السفر سيعوّض عليهم دافع الضرائب الروسي. لكن على مستوى ثانٍ، تفرض هذه العقوبات للمرة الأولى ثمناً شخصياً للارتباط بالجريمة. ويبدو أن الإستراتيجية هي أنّ فرض هكذا أثمان سيؤثر في حسابات البعض في أوساط النخبة الحاكمة.
ويقول سيرغي غورييف، خبير الاقتصاد الذي كان يعمل سابقاً في الكرملين وأصبح يقدم استشارات لنافالني من باريس “كل جولة عقوبات تزيد التوتر، بمعنى أنّ الناس يفهمون أنّ العمل لمصلحة سياسة بوتين خطير”. لكن ما لن تفعله هو التأثير في سلوك بوتين “من سالزبوري إلى سيبيريا وبرلين، أظهر أنه لا يهتم لأمر العقوبات. إن أردتم تغيير النظام، عليكم إقناع الشعب الروسي بأن نظام بوتين أفلس، واتركوا الأمر لهم”.
في الوقت الراهن، ما زالت النخب تؤمن ببوتين، كما تشير إيكاتيرينا شولمان، المتخصصة في العلوم السياسية والعضو السابق في مجلس حقوق الإنسان في الكرملين. وتقول إن الرئيس ما زال أكثر سياسيي البلاد شعبية. “على الرغم من تراجع شعبيته بانتظام، ما زالت معدلات تأييده مرتفعة (2 مقابل 1). ولا بديل واضحاً عنه أو من يملك مشروعية”.
لكن هيمنة الرئيس السابقة على الشؤون الداخلية تنعطف. فعدد الزيارات والاجتماعات الرسمية المقررة في مختلف أنحاء البلاد يتراجع منذ أواخر العام 2014، وهو مؤشر إلى تراجع تفاعله.
وترافق ذلك مع تضخّم الجهاز الحكومي وتعاظم سيطرة الأجهزة الأمنية على السياسة الداخلية.
وإذ تتولى مثل هذه الأجهزة القيادة، ليس القمع باحتمال بعيد جداً. لكن الدروس المستقاة من بيلاروس تشير إلى أن قابلية استمرار نظام بوتين من غير المرجح أن تُحل عبر استعراض للقوة في الشارع. سوف تدور هذه المعارك في أماكن أخرى، وبشكل أساسي في نفوس الناس. لا شك في أن الكرملين يتوسل بآلة دعائية معقّدة تؤيده، لكنه فشل بالقدر نفسه في التوصل إلى إيديولوجية مقنعة أو رؤية متماسكة للمستقبل.
ويقول مستشار الكرملين السابق غورييف “يشكل أمثال نافالني خطراً لأن الحكومة عاجزة عن منازلتهم في ميادين المعارك الجديدة على يوتيوب”. ويختم قائلاً “ولهذا السبب قرروا شنّ الحرب باستخدام [مادة] نوفيتشوك [السامة]”.
© The Independent
المصدر: اندبندنت عربية