تحمل يوميات الشيخ سارية الرفاعي، الصادرة بعنوان «مذكرات في زمن الثورة» حديثاً، وصف الجزء الأول. غير أنها تغطي السنوات منذ اندلاع الثورة حتى الآن، بينما الشيخ على فراش المرض في إسطنبول. في حين يبدو أن الجزء اللاحق، المنتظر صدوره بعنوان «ذكريات ومواقف في حياتي»، أقدم تاريخياً، وربما سيتناول نشأة الشيخ في كنف والده الشهير الشيخ عبد الكريم، ودراسته في الأزهر، ثم نفيه الطوعي/ الإجباري إلى السعودية عام 1981، نتيجة صدام السلطة السورية مع الإسلاميين، بصحبة شقيقه الأكبر الشيخ أسامة. ثم عودتهما عام 1993 لينهضا بالجماعة التي خلّفها والدهما وسميت «دعوة زيد»، نسبة إلى جامع زيد بن ثابت الذي كان يخطب فيه ثم ورثه سارية. في حين تولى أسامة جامعاً حديثاً حمل اسم الأب في كفرسوسة، موّل إنشاءه تلامذته من التجار الذين سيدعمون، في وقت لاحق، جمعية «حفظ النعمة» الخيرية التي أسسها الشقيقان وعدد من المشايخ المنتمين إلى هذه الدعوة التي تولّت عدداً ملحوظاً من الجوامع في العاصمة.
لسارية، الذي وُصف سابقاً بأنه «شيخ التجار»، ثورته. وهي لا تبدأ في منتصف آذار، على خلافٍ بين تاريخَي 15 و18 منه كما هو معروف، بل قبل ذلك بنحو شهر تقريباً، مع مظاهرة الحريقة التي يعدّها الآخرون إرهاصاً فيما يرى الشيخ فيها البداية. وإذا كان التفسير السائد لخروج الاحتجاجات من المساجد هو أنها المكان الوحيد المتاح لتجمّع الناس دون خوف، فلدى الشيخ رأي آخر أيضاً. إذ يرى أن «الشباب الملتزم» الذي يرتادها كان يعاني الإقصاء في الدوائر المدنية، وربما من الضرب والتعذيب في المؤسسة العسكرية لأنه يتمسك بصلاته. ولذلك كانت الانطلاقة من الجوامع، دون أن يغفل عن أن شرائح المجتمع كلها كانت تعاني الظلم.
لا يتجاهل الشيخ سارية مشاركة آخرين، توسّط بنفسه للإفراج عن بعضهم لدى وزير الداخلية بعدما اعتقلوا إثر «مظاهرة المثقفين» الشهيرة، وفيهم فنانون وكتّاب من مختلف الطوائف؛ غير أنه لا ينسى التذكير بأن 85% من سكان البلاد من أهل السنّة، وأن مدينة دمشق مباركة بالرجال الذين ينصرون دين الله، وأن الملحمة الكبرى ستكون فيها وفي غوطتها.
أيضاً، بخلاف مذكرات أخرى كتبها ناشطون على الأغلب، علمانيون ربما؛ يبرز في كتاب الشيخ دور «التجار الأحرار»، خلافاً لنظرائهم المستفيدين من النظام أو الذين يشاركون المسؤولين والضباط. فقد كان أثر «عامة التجار» مهماً وفاعلاً في دفع الحراك الثوري برأي الشيخ، باستجابتهم لدعوات الإضراب، ولا سيما ذلك الذي حدث في دمشق في أواخر أيار 2012، بعد مجزرة الحولة، واستمر أياماً حتى تدخلت قوى الأمن لإنهائه.
وفق الكتاب يتميز تجار دمشق خاصة، وتجار سوريا عامة، بحبهم للعلماء وبصلتهم بهم. ولهذا تجدهم يبادرون إلى التبرع للجمعيات الخيرية الإسلامية ويتبنون الإنفاق على المعاهد الشرعية. ولأنهم كانوا يعانون من الفساد في أجهزة الدولة حيث انتشرت الرشوة، وخاصة في الجمارك؛ انطلقت فيهم «أول مظاهرة في سوق الحريقة وسط دمشق». وبعد دخول العديد من المدن والبلدات في وصف «المنكوبة» بادر كثير من التجار إلى مساعدة النازحين من القرى والمحافظات إلى العاصمة. ثم نظموا قوافل تحمل الإغاثة تحت عنوان «مبادرة أهل الشام»، وسيّروها إلى حمص وما حولها. أما المقيمون منهم في الخليج وأوروبا وأميركا منذ ثمانينيات القرن الماضي فقد أسهموا بدورهم كذلك، فدعموا المدارس في المناطق المحررة أو في دول اللجوء المجاورة.
وقد توزعت مواقف مشايخ الشام، وسوريا عموماً، على ثلاثة؛ من أعلن وقوفه إلى جانب الثائرين، ومن خشي بطش النظام فآثر السكوت وعدّ ما يجري «فتنة» ينبغي اعتزالها، ومن خاف على مؤسسته الدعوية أو منبره أو معهده من الإغلاق فتظاهر بالوقوف إلى جانب النظام.
كان سارية وأسامة الرفاعي من النوع الأول، وقد أفصحا عن موقفهما وبلوراه بالتدريج. وقد التقاهما عدد من كبار رجال السلطة، بدءا برئيسها الذي كلف وزير أوقافه بدعوة ثلاثين من أبرز المشايخ إلى القصر الجمهوري في مطلع آذار 2011، تحسباً لامتداد موجة الربيع العربي. وبعد اندلاع الثورة طلب لقاء الأخوين الرفاعي، فاستمع منهما انتقاداتهما لانتشار الفساد، ومظالم خاصة بالتيار الديني الذي كان غاضباً من نقل 1200 مدرّسة منقبة من سلك التعليم، وموظفين متدينين في محافظة دمشق، إلى أعمال أخرى، وعدم تخصيص أمكنة للصلاة في المولات الناشئة، وإغلاق قناة الدعوة الخاصة بدعوة زيد بعد ستة أشهر من بثها، ومن عدم الاعتراف بالمعاهد الشرعية. بعد انتهاء اللقاء صدرت مراسيم تلبي هذه المطالب. وأثناءه طلب منهما مقابلة وجهاء درعا، التي يتحدر منها والدهما، لتهدئتهم ومعرفة مطالبهم متعهداً بتنفيذها، وهو الأمر الذي لم يفِ به رغم بساطة الطلبات التي عاد بها الشيخان.
بعد لقاء الأسد تتالت لقاءات كبار الضباط بهما، كالعماد آصف شوكت والألوية علي مملوك وهشام بختيار وعبد الفتاح قدسية ومحمد ناصيف ورستم غزالة وعدنان مخلوف، في طابع حرصوا فيه على إرضاء الشيخين ليساهما في تهدئة الشباب، رغم أنهما أوضحا أكثر من مرة أن لسلطتهما الأدبية حدوداً، وأن الشارع ليس طوع أوامرهما مهما تعرض له من قمع وانتهاكات واستفزاز، وأن «الحل يكمن في كف أيدي الأجهزة الأمنية، وإطلاق سراح المساجين، ولكننا وجدنا أنهم لا يملكون القرار!» رغم أهميتهم ظاهرياً. ناهيك عن مسؤولين مدنيين كرئيس مجلس الوزراء وبعض قياديي حزب البعث أعضاء مجلس الشعب. في مرحلة كان النظام فيها يحاول استمالة الشخصيات البارزة في المجتمع، من مشايخ وغيرهم، بتسليمهم المناصب أو بتودد كبار المسؤولين لهم للتأثير على مواقفهم العامة.
شغل التعبير عن مطالب الناس محور هذه اللقاءات، مع التركيز على مطالب التيار الديني. وفي قلب هذه الأخيرة أتت مسألة منع الصلاة في الجيش. التي يقول الكتاب إنهم طرحوها سابقاً مع اللواء بهجت سليمان، رئيس فرع الأمن الداخلي وقتها، فأنكر وجود قرار كهذا مستشهداً بأن أحد ضباطه أرسل إليه مجنداً لأنه يصلي فأجابه سليمان: «ما المشكلة إذا صلى؟». لكن الشيخ يلتقط عقدة المسألة فيرد: «هذا الدليل معنا؛ لأنه أرسله إليك بحجة أنه يصلي». فأجاب اللواء: «يا أخي، أرجوكم، الجيش لكم وهبونا إياه!».
صادف الأول من رمضان يوم الأول من آب لعام 2011. وفيه اقتحم الجيش مدينة حماة مرتكباً مجزرة، فألقى الشيخ كلمة حارة رداً على ذلك، ليعقبها اتصال من العقيد حسام سكر، الذي يصفه بأنه المسؤول الأمني في القصر الجمهوري، قال فيه «إن السيد الرئيس وضباط الجيش وجنوده عاتبون عليك لأنك تتهمهم بالإجرام في يوم عيدهم». ونتيجة تباعد السياقات في البلاد ما كان الشيخ لينتبه إلى أن هذا اليوم يصادف عيد الجيش. فعاد إلى المسألة بعد يومين، في خطبة الجمعة، ليهنئ الجيش إن كان يدافع عن أمن البلد وأبنائه ومقدّراته، لا «الجيش العقائدي» الذي يمنع الصلاة والصيام، ويسود فيه سبّ الرب والدين؛ فمثل هذا لا يمكن أن يؤتمن على الوطن.
ولما جهر الشيخ محمد كريّم راجح، شيخ قراء الشام، بالكلام من على منبر جامع الحسن؛ أعطى حركة الاحتجاجات المشيخية والشامية زخماً أشد بسبب ما تميز به من قوة. فعندما أرسل إليه بشار الأسد ليلتقيه وقال له: «بماذا تأمرني يا شيخ؟» أجابه: «آمرك أن تقود الثورة، وأن تحضر صلاة الجمعة، وأن تشارك المتظاهرين؛ لأنك أعرف الناس بما حل بالبلاد».
دعا البيان الأول لعلماء دمشق الجنودَ إلى التمرد على أوامر قادتهم بإطلاق النار على المدنيين، وحمّل الثاني مسؤولية سفك الدماء للأجهزة الأمنية. وإثره صدر قرار وزير الأوقاف بعزل نحو خمسين من الموقعين عليه عن الخطابة، مستثنياً رؤوسهم؛ كريّم راجح والأخوين الرفاعي والدكتور راتب النابلسي والشيخ هشام البرهاني. الذين أرسل لهم اللواء هشام بختيار، رئيس مكتب الأمن القومي وقتئذ، «ينصحهم» باعتزال الخطابة، في أواخر 2011، ففعلوا. لكنهم عادوا إلى إصدار بيان أشد، في شباط 2012، ختموه بالقول: «فاليوم جيش وغداً لا جيش… واليوم حكم وغداً لا حكم… غير أن سوريا هي المنتصرة». ولم يمض شهر حتى وردتهم «نصيحة» أخرى من المكتب الأمني في القصر الجمهوري بأن معلوماته تفيد أن «العصابات المسلحة» قد تستهدفهم بالقتل، وأن الحل المطروح هو مغادرتهم البلاد. وهو ما فعلوه بعد سنة من الثورة ومحاولات الإصلاح.
أقام الشيخ بمصر بداية ثم استقر في تركيا، حيث أسهم في إنشاء عدد من التجمعات والمشاريع الدينية والتربوية والإغاثية، والتقى عدداً من قادة المعارضة وممثلي الدول الصديقة الذين يذكرهم الكتاب. غير أن تلك قصة أخرى…
المصدر: موقع تلفزيون سوريا