تربع حافظ الأسد على كرسي الحكم في سورية ثلاثين عاما، كان فيها الآمر الناهي الأوحد، مطلق الصلاحيات. لا يستطيع أحد سؤاله عما يفعل، وأسس نظاما فرديا شديد المركزية، وتجتمع كل سلطات الدولة بين يديه، فهو رئيس الدولة، والقائد الأعلى للجيش، والامين العام للحزب، ورئيس الجبهة الوطنية، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، وهو الذي يختار رئيس الوزراء، ويعين الوزراء، والمحافظين، ورؤساء أجهزة الاستخبارات والشرطة، وهو من يختار حاكم المصرف المركزي ورؤساء مؤسسات القطاع العام. كما يتدخل في اختيار نواب مجلس الشعب.
معيار الاختيار في كل المناصب هو الولاء الشخصي الأعمى له، لا للدولة، ولا لحزب البعث، ولا للطائفة العلوية، كما يخيل للبعض خطأ.
قبل الأسد، كان الولاء للحزب هو السائد على مستوى النظام والسلطة واللغة السياسية في الاعلام ، ولم تعرف سورية ظاهرة ( عبادة الفرد ) قبل الأسد ، بل دخلتها مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة ، فرسخها وكرسها ، ومع الوقت تضخمت ، حتى صار كل شيء يتم انجازه في طول البلاد وعرضها إنما هو من فضل الرئيس الأسد ، وبفضل عبقريته ، ومن إحسانه وبركاته ، وظهوره مدين له شخصيا .
انتشرت ظاهرة الصور الضخمة للرئيس القائد في الساحات والميادين والشوارع ، حتى صارت ظاهرة صادمة ومثيرة للانتباه ، ومستفزة ، وانتشرت معها الشعارات التي تمجده وتمجد عهده وانجازاته بطريقة تذكر بأتاتورك وماوتسي تونغ وكيم ايل سونغ ، وتذكر بملوك العصور الغابرة .
ولاحقا تطورت ظاهرة الصور والشعارات ، الى ظاهرة ( التماثيل ) في جميع المدن والمحافظات ، ودخلت معها عبارات التبجيل له القاموس السياسي العام ، فكل مسؤول عليه أن يبدأ خطابه في أي مناسبة ، بتمجيد القائد ، والثناء عليه ، والاشادة بأفضاله على الشعب ، إذ لولاه لما تحققت . وفي الثمانينات ، انتقلت هذه الظاهرة الى المساجد وخطب الجمعة والاحتفالات الدينية ، علما أنها لم تكن منتشرة في سورية وامحت بعد نهاية العصر التركي في عام 1918 .
في عهد حافظ الأسد أصبح الولاء الشخصي له بمثابة ( العقد ) بينه وبين كبار رجال الدولة الذين يختارهم بنفسه للمناصب العليا ، ممن يدينون بالولاء والطاعة له حصرا . وكان إذا اطمئن لأحد مواليه ، ولمس صدقه واخلاصه وطاعته له ونال رضاه ، أبقاه في منصبه الى أن يتغير مزاجه تجاهه . وكان يحمي أتباعه المرضي عنهم من المساءلة مهما فعلوا ، أو ارتكبوا من الجرائم والفساد .
لقد ألحق ذلك أضرارا عديدة وعميقة في بنية الدولة السورية :
أولها حالة جمود إداري يمنع التغيير والتجديد .
وثانيها استشراء الفساد بسبب حماية الرئيس لأتباعه ، بل ولكل المسؤولين في عهده ، لأنه كان يعتبر محاكمة أي مسؤول فاسد هو محاكمة لنظامه هو ، وبالتالي إساءة له ، ولذلك كان يكتفي بطرد من يغضب عليه أو يستفحل فساده بدون ضجة أو شوشرة !.
وثالثها تهميش القانون والأنظمة الادارية وافراغها من محتواها .
لقد ترسخت مع الوقت هذه الانحرافات وأصبحت بمثابة عاهات دائمة للنظام ، تسببت بتآكل الدولة ، وضمور القانون، واستشراء الخراب في كافة الأجهزة والمؤسسات بما فيها الجيش الذي لم يكن يعرف الفساد المالي سابقا ، وفي الشرطة والقضاء ، واخترقت التعليم والأوقاف والصحة ، مما أوقع البلاد في أزمات لا حصر لها ، انعكست على حركة التطور ، والنمو ، ودورة الحياة اليومية للناس ، واضمحلت الدولة حتى لم يعد لها دور وفعالية ، وانتقلت السلطة لأيدي جماعات وعصابات محمية من الرئيس وأعوانه وأقربائه ومواليه .
كان من طباع حافظ الأسد قلة حركته ، وترفعه عن الناس ، فكان لا يتصل بالناس مباشرة ولا يستمع لآرائهم إلا نادرا أو في أقل معدلات الاتصال . اعتاد أن يحكم البلاد ويدير الدولة من داخل قلعته الحصينة الرابضة على قمة قاسيون ، والمعزولة عن أوار الحياة الدمشقية . كما كان يرفض التغيير والتجديد ، خوفا من احتمالاته ومخاطره ويميل للمحافظة على ما هو كائن وقائم بحجة (الاستقرار) وابقاء الأوضاع من صغيرها لكبيرها على ما هي عليه . ولعل هذه الخاصية مصدر فكرة ( التوريث ) التي تعني عمليا رفض التغيير وتجميد كل شيء .
لم يتردد الأسد في إقحام الوراثة على نظام الدولة الجمهوري الذي يتناقض معها تناقضا صارخا ، وجعل سورية ثاني نموذج في تاريخ العالم لل ( الجمهورية الوراثية ) ، مثله مثل نظيره وقرينه الأول نظام كوريا الشمالية ، الذي أسسه ورسخه كيم ايل سونغ ، والذي كان الأسد أحد أشد المعجبين به ، ويستلهم تجربته في كل حين ويتحدث عنها لضيوفه باعجاب يبلغ درجة الانبهار !!
تضخمت أضرار حالة الجمود التي تسبب بها حافظ الأسد ، لا سيما أنه لم يكتف باحتكار السلطة وحصرها بين يديه ، وأصبح المرجع الأوحد في كل شيء ، من الجيش والأمن الى السياسة الداخلية والخارجية ، مرورا بالادارة ، والاقتصاد والاعلام ، وحتى الشؤون الحزبية ، والخدمية ، والتعيينات ..!
يقول أحد المسؤولين الذين عملوا معه : كانت هناك مناصب كثيرة لا يسمح لرئيس الوزراء أو للوزير المختص الإقتراب منها ، أو التدخل في عملها ، أو تغييرها ، قبل الرجوع الى رب الدولة !
نتيجة ذلك أصبح السكون والثبات والشلل سمة غالبة على كثير من مراكز السلطة وآلياتها وعجلاتها التي تحتاج للحركة والتغيير والتطوير وتجديد دماء المسؤولين عنها . وعليه يمكننا ملاحظة أن حافظ الأسد أبقى مسؤولين كثيرين في مواقعهم الحساسة داخل النظام لسنوات طويلة محصنين ضد التغيير والإقالة والمحاسبة ، لمجرد ثقة الرئيس بهم ، القائمة على ولائهم الأعمى والشخصي له ، ورضاه عنهم .
لنلاحظ الأسماء التالية دليلا على ما نذهب اليه:
1 – العماد مصطفى طلاس منذ عام 1970 الى ما بعد وفاة حافظ الأسد رغم أنه بلغ سن التقاعد منذ الثمانينات.
2 – عبد الحليم خدام ، رافق الأسد طوال عهده ، وكان ضمن المجموعة الضيقة معه منذ 1970 الى ما بعد وفاته أيضا ، ووصل الى منصب نائب الرئيس منذ الثمانينات .
3 – العماد حكمت الشهابي بقي رئيسا لهيئة الاركان منذ 1974 الى 1998 .
4 – عبد الله الأحمر، الأمين العام المساعد لحزب البعث منذ أول عام في عهد الأسد 1971 وحتى اليوم.
5 – أحمد كفتارو ، بقي مفتيا عاما للدولة ومقربا من الرئيس 40 عاما ، أي منذ ما قبل وصول الأسد للسلطة بستة أعوام ، الى ما بعد وفاته بأربعة أعوام 1964 – 2004 .
6 – صابر فلحوط ، عينه الأسد نقيبا للصحافيين منذ عام 1970 ، وظل في منصبه حتى 2006
7 – علي عقلة عرسان عينه أمينا عاما لاتحاد الكتاب عام 1977، وبقي حتى عام 2005 .
8 – دياب الماشي ( زعيم عشائري ) ظل عضوا في مجلس الشعب في كل دوراته منذ 1971 حتى وفاته عام 2010 ، مع أنه لا يحسن القراءة والكتابة ، ودخل اسمه موسوعة غينيز كأكثر النواب ” المنتخبين ” في العالم عضوية في “البرلمان” السوري .. ما شاء الله!
لم يكتف حافظ الأسد باحتكار السلطة الأولى في الدولة، وتكريس ظاهرة عبادة الفرد، ورفض التغيير ، حتى ولو الشخصي والاداري بمستواه الأدنى ، ولكنه كرر هذه الظاهرة ، فصارت سمة من سمات عهده ونظامه : الواحد مكرر !
ونحن بحاجة لباحثين متخصصين لكي ندرس نتائج هذه الحالة ونعاين عن قرب وبشكل ملموس أن الخراب والتآكل اللذين اعتريا الدولة السورية ونظامها السياسي إنما بدآ في الوزارات والمؤسسات التي اصابها الجمود الشخصي والاداري ، قبل أن تنتقل العدوى الى كل مؤسسات الدولة والبلد والمجتمع ، طوال خمسين عاما .
رغم تراكم اليأس والاحباط ،علق الناس والخبراء المخلصون وكوادر الإدارة البيروقراطية العامة الذين يديرون آلة الدولة ، علقوا آمالهم بعد وفاة (الفرعون – الاله ) على الشاب الذي ورث السلطة جاهزة ، وهو القادم من بريطانيا ، ويعرف الكثير عن طريقة العمل والحكم والديمقراطية فيها ، ورأوا أن نقل السلطة اليه رغم اعتراضهم على ” مبدأ التوريث ” يمثل في كل الأحوال فرصة أخيرة لانقاذ البلاد من السقوط والانهيار، وانتظروا منه أن يبدأ فورا في التغيير ، ولو التدريجي ، والجزئي في المجالات الإقتصادية والادارية ، خصوصا أنه وعد الناس بالتغيير . ولكنهم سرعان ما صدموا بقسوة في المؤتمر العام للحزب عام 2005 حين وضع بشار كل مشاريع التغيير والتحديث التي رفعت له من خبراء الدولة والحزب ، في جاروره الخاص ، وأقفله ، رافضا تنفيذ أي شيء منها ، محافظا على ( السيستم ) القديم الذي ورثه عن أبيه ، بلا أي تغيير ، مكتفيا بإزاحة بعض الوجوه الهرمة التي تذكره هو بفضله عليهم ، وتذكر الشعب بالفساد والولاء والظلم الذي عاشوه في عصر الأب ، ممن سمتهم وسائل الاعلام ( الحرس القديم ) .
لقد اكتشف أكثر المتفائلين ببشار الأسد بأنه شاب صغير سنا ، بل وأقرب الى المراهقة ، وأكثر ستاتيكية من أبيه من الناحية العقلية والفكرية ، وأقل خبرة ونضجا وإدراكا لمتطلبات الحكم والقيادة .
والنتيجة كما نرى ، ويرى العالم الآن ، أشد تراجيدية من التراجيديات الاغريقية !
المصدر: الشراع