الابتزاز الاقتصادي الروسي في مزرعة الأسد

عبد الناصر الجاسم

لم يتعامل نظام الحكم في سورية مع موارد ومقدرات هذا البلد بمنطق الدولة مطلقاً، بل كان يديرها كمن يدير مزرعته الخاصة وذلك من خلال القوانين والقرارات الاقتصادية وتوزيع الاستثمارات، ولكن ذلك كان مغطى بستائر من الشعارات الوطنية الفارغة والمزايدات والتي ربما لم تكن مكشوفة لدى شريحة واسعة من السوريين.

وبعد قيام ثورة السوريين على واقعهم والذي كانت الدوافع الاقتصادية تشكل النسبة الكبيرة من مجمل دوافعهم للانتفاض والتمرد على منظومة الاستبداد والفساد، هنا بدأت تصرفات نظام الحكم أكثر صفاقة ووقاحة في التصرف بموارد الأرض السورية الظاهر منها والباطن، وفي نهاية عام 2011 وبدايات 2012 وعندما قاطعت معظم الدول العربية والإقليمية والغربية نظام الحكم في سوريا، بدأت الخيارات تضيق وتسوء أمامه، فبدأ يلعب بورقة الموارد الاقتصادية المختلفة وعلى رأسها الغاز والطاقة والمياه الإقليمية والموقع الجيوسياسي، وبيعها ورهنها مقابل الدعم العسكري الروسي للمحافظة على كرسي الحكم، وقد أسال ذلك لعاب الدب الروسي وأثار غريزته المتوحشة، لاسيما أن روسيا تعيش فساداً سياسياً وتراجعاً اقتصادياً غير مسبوق، وتبحث عن فرصة لتصدير مشكلاتها للدخول في نزاعات خارجية تحقق من خلالها بعض من دورها المفقود وتحقق بعض المردود لشركاتها المافيوية، ووجدت في نظام الحكم في سوريا تلك الفرصة، حيث ذاك النظام لديه الاستعداد التام لبيع وتأجير الموارد والمقدرات ومصادرة حق الأجيال السورية القادمة وذلك في سبيل الحفاظ على كرسي الحكم لأطول فترة ممكنة.

في 26  آب 2015  انتشرت الروائح الأولى لدخول الدب الروسي بعلاقة غير شرعية مع نظام الحكم في سوريا من خلال توقيع الاتفاق العسكري الذي يتيح لذاك الدب وجنوده، استباحة الأرض والبحر والجو في سوريا عموماً، حيث نشرت صحيفة واشنطن بوست على خلاف كل العلاقات الطبيعية وعلاقات المصالح واتفاقيات التعاون، فقد بدأت العلاقة بالاغتصاب العسكري الروسي للنظام.

بنود ذلك الاتفاق بتاريخ 15 كانون الثاني 2016 والذي تضمن اتفاق إذعان وإذلال بكل ما تعنيه الكلمة، ومن أمثلة هذه البنود: (القوات العسكرية الروسية يجب أن تكون محصنة من القضاء السوري المدني والإداري، من حق الطرف الروسي نقل أي أجهزة أو ذخائر إلى داخل سوريا أو إلى خارجها، من دون أي تكاليف أو رسوم، ليس من حق الجمهورية العربية السورية تقديم أي مطالبات لروسيا الفدرالية أو لمجموعة الطيران الروسي وموظفيها، ولا يحق لها أن تتقدم بأي دعوى قضائية ضد أنشطة مجموعة الطيران الروسي وموظفيها).

وعلى خلاف كل العلاقات الطبيعية وعلاقات المصالح واتفاقيات التعاون، فقد بدأت العلاقة بالاغتصاب العسكري الروسي للنظام، وبعد ذلك بدأت فرض القيود والضمانات على شكل اتفاقيات طويلة الأجل للاستثمار في موارد اقتصادية مختلفة، منها ما هو تقليدي وبسيط مثل: استثمار 1 مليار دولار في محطة تشرين الكهربائية قرب دمشق، شركة نقل بحري سورية – روسية، بيوت بلاستيكية في الساحل السوري، مؤسسة مالية مشتركة لتمويل الصادرات، تطوير التكنولوجيا والاتصالات، بناء مطاحن في حمص عبر شركة (سوفو كريم) الروسية بقيمة 70 مليون يورو وأصبحت روسيا الدولة الأولى في تصدير مادة القمح لسوريا، ومنها الأكثر خطورة واعتداء على موارد وممتلكات الشعب السوري والأجيال القادمة، مثل: (عقد عمريت) البحري للتنقيب عن النفط وإنتاجه في المياه الإقليمية السورية حيث يقوم الروس بالتنقيب من جنوب طرطوس حتى بانياس وعلى عمق 70 كم ولمدة 25 عاماً بقيمة 100 مليون دولار، والاتفاقية مع شركتي (فيلادا و ميركوري) الروسيتين للتنقيب عن النفط في ثلاث مناطق وثلاثة عقود، وكذلك عقد استثمار ميناء طرطوس لمدة 49 عاماً ويجدد تلقائياً 25 عام، وبشروط مجحفة جداً كتسريح 2000 عامل سوري، وحق التصرف بسطح وقاع الميناء بكل ما يحتويه من ثروات، وحق امتلاك مناطق حرم وحماية للميناء، ومؤخراً حاول الوفد الروسي الذي زار دمشق بعد غياب لنحو 8 سنوات، أن يعلن شكل العلاقة الحالية والمستقبلية مع الجانب السوري وذلك من خلال إعلانه عن توقيع ما يقارب 40 اتفاقاً وصفقة تجارية، وتجنب الحديث عن مواضيع عسكرية أو خلافية، وكأن الوفد يريد تثبيت بعض النقاط على حروف الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية  السرية وغير الشرعية مع سلطة نظام الحكم ولكي يخرجها من صيغة الرشوة السياسية.

لا شك في أن الروس وفي هذه المرحلة من تعقيد الحالة السورية، دولياً وإقليمياً وداخلياً، بدؤوا يتحدثون عن إعادة الإعمار في سوريا ويشيرون ضمناً إلى أن علاقتهم بالنظام وما قدموه لهم من دعم عسكري ومساندة عاطفية ونفسية، يتيح لهم الحصول على موقع وحصة، وهذه العلاقة غير الشرعية والشاذة أنجزت على سبيل المثال: قتل سلاح الجو الروسي 6680 مدنياً سورياً بينهم 1928 طفلاً و908 سيدات ودمر 264 مدرسة و189 مشفى ومستوصفاً و56 سوقاً شعبياً، و3،3 مليون نازح، هذا فقط خلال 5 سنوات وبشكل مباشر.

وفي الخلاصة نقول، إن نظام الحكم بعد أن دمر مقدرات وخيرات سوريا فقد رهن هذه الموارد وهي- حق الأجيال القادمة – للدول التي ساندت حربه الضارية على شعبه المتطلع للتحرر وذلك لقاء إطالة أمد جلوسه على كرسي الحكم الذي بدا غارقاً بدماء السوريين، وعلى رأس هذه الدول المحتل الروسي وبعده إيران والتي استثمرت في الشأن الثقافي والتعليمي وجزء من الموارد الاقتصادية لقاء استرداد ديونها وتغطية خط الائتمان طيلة سنوات الحرب، ويكون النظام قد أورث السوريين علاوة على الدمار والخراب والموت والاعتقال، مجموعةً من الاتفاقيات الدولية المجحفة وكمّاً هائلاً من المديونية الخارجية، وسيكون التعامل مع ذلك في غاية الصعوبة، ويحتاج إلى جهود قانونية مخلصة وجبارة لتفنيد كل سياقات وظروف هذه الاتفاقيات والصفقات التي تفوح منها رائحة الخيانة والذل والعهر السياسي، وهي في الوقت الحاضر تؤثر على مجريات ومحاولات الوصول إلى حل سياسي في سوريا، فكل الأطراف تريد ضمان مصالحها في مستقبل سوريا، ويقدر حجم الإنفاق العسكري الروسي في سوريا بنحو 7 مليارات دولار.

وقد تعامل نظام الحكم مع سوريا ومواردها وذلك من خلال فتح الباب للدب الروسي للدخول في تفاصيل الجغرافية السورية ومواردها، وكأنها مزرعة الأسد وليست سوريا العظيمة.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى