أشار تقرير “الجوع الخفي” إلى أن المشكلات الحالية التي يعاني منها الأطفال السوريون سواء داخل البلاد، أو في مخيمات النزوح في المدن السورية أو مخيمات اللجوء خارج البلاد، ستبقى لها آثار مدمرة لأجيال مقبلة…
أتَذَكَّرُ مع اقتراب مناسبة “اليوم الدولي للقضاء على الفقر” قصةَ أحد الأصدقاء الذي قال لي مرةً بحرقةٍ والدموع تكاد تنفر من عينيه: “وصَفَ الطبيب لابنتي أدويةً إضافةً إلى أوقية لحمٍ وبيضةً يومياً لكي تتغلب على مرض التقزَّم الذي أصابها، وعليها تناولها بدءاً من الآن حتى سن البلوغ”، وحين عرفتُ أن سبب الدموع هو عجزه عن تأمين اللحم والبيض قلت له: “أما البيض فيمكنك تأمينه”، أجاب: “إن جلبت لها بيضة يومياً سيطالب أخوها ببيضةٍ له أيضاً، ولا أستطيع أن أشتري بيضةً له أيضاً”.
هذه القصة المؤلمة أصبحت قصة كل سوريٍّ هذه الأيام، بعدما بات تأمين لقمة العيش هاجساً لـ90 في المئة من السوريين الذين أصبحوا تحت خط الفقر، بحسب المنظمات الدولية أواسط العام الحالي. ولكلٍّ قصته مع الفقر، غير أن القاسم المشترك بين فقراء سوريا هو أن فقرهم سيورثُهم أمراضاً ستدوم، ومعاناةً نفسيةً وجسديةً ستستمر في ظلِّ غياب أي حل للوضع في سوريا.
السوريون يجهلون أن هنالك يوماً مخصصاً لنسبةٍ كبيرةٍ منهم، يُحتفل به عالمياً ويُحظَّر عليهم الإشارة إليه؛ إذ بقي لفترة طويلة، وما زال، محظَّراً الاعتراف بوجود فقر في سوريا، مثلما كانت تمنع الإشارة إلى وجود فساد أو أزمات اقتصادية مزمنة ومتكررة تخنق البلاد وأهلها، أزمات لم يكن هنالك من يجرؤ على الحديث عنها. وكان السوريون متعايشين مع خط الفقر منذ الثمانينات، وحتى أواخر تسعينات القرن الماضي، لم يكن دخل المواطن يتعدى المئة دولار أميركي. أي دون خط الفقر المحدد عالمياً بثلاثة أضعاف، لشعب معروف عن أبنائه حبهم العمل وسعيهم الدائم إلى تغيير واقعهم عبر العمل لأوقات متأخرة وفي مهن مختلفة، حتى أنك كنت تجد المهندس يعمل سائق سيارة نقل عمومي بعد الظهر، والمدرِّس عاملاً في مطعم، وهكذا.
الآن، ومع مصادفة “اليوم الدولي للقضاء على الفقر”، بإمكان نظرة سريعة على واقع معاناة الأطفال السوريين أن تدلنا على حجم معاناة السوريين عموماً بسبب الفقر وأمراضه وتبعاته المستقبلية. ففي تقرير نشرته منظمة “أنقذوا الأطفال البريطانية”، في 29 أيلول/ سبتمبر الماضي، يَظهر جليّاً استمرار تأثير الحرب في حياة السوريين، إذ قال التقرير إنه خلال النصف الأول من هذه السنة، ارتفع عدد من يعانون من انعدام الأمن الغذائي من 7 ملايين و900 ألف شخص إلى 9 ملايين و300 ألفاً، بينهم 4 ملايين و600 ألف طفل بحاجة إلى مساعدات غذائية. في حين يعاني 700 ألف طفل من جوعٍ حقيقيٍّ بسبب تضرر الاقتصاد الذي عززه الإغلاق لمواجهة فايروس “كورونا”، وبسبب دمار الزراعة وزيادة التضخم في هذه الفترة. وقال التقرير الذي جاء تحت عنوان “الجوع الخفي في سوريا”، إن عدداً غير مسبوق من الأطفال يعاني ارتفاعاً في معدلات سوء التغذية التي تسبب لهؤلاء الأمراض وتهدد حياة 137 ألفاً بالموت، إضافة إلى أن سوء التغذية الذي تضاعف خمس مرات لدى النساء الحوامل في هذه الفترة، يهدد حياة الأجنة والمواليد على السواء، وهو يضاف إلى معاناتهن من فقر الدم ونقص المغذيات، وذلك بعد نحو 10 سنوات من الصراع والنزوح.
وفي هذا الإطار، أشار تقرير “الجوع الخفي” إلى أن المشكلات الحالية التي يعاني منها الأطفال السوريون سواء داخل البلاد، أو في مخيمات النزوح في المدن السورية أو مخيمات اللجوء خارج البلاد، ستبقى لها آثار مدمرة لأجيال مقبلة إذا لم تُتَّخذ إجراءات عاجلة. فعلى سبيل المثال يعاني واحد من 8 أطفال سوريين من مرض التقزُّم نتيجة سوء التغذية. وتدعيماً لهذا القول، أورد “التقرير العالمي حول الأزمات الغذائية” لسنة 2020، والذي يصدره برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، إحصاء يفيد بأن ما نسبته 27.5 في المئة من الأطفال السوريين تحت سن الخامسة يعانون من التقزُّم بسبب سوء التغذية. وهو أمر متوقع بعدما صنَّف هذا التقرير سوريا كواحدة من الدول العشر التي عانت من أسوأ أزمات غذائية خلال عام 2019. كذلك حذرت منظمة “أنقذوا الأطفال” من خطر تردي الصحة العقلية على أطفال سوريا جراء أمراض الفقر.
مع حلول المناسبة تستمر معاناة السوريين بسبب التقنين في مادة البنزين التي تجبر أصحاب السيارات على ركن سياراتهم في طوابير طويلة ليومين أو ثلاثة أمام محطات الوقود، لملء خزانات سياراتهم أو تدبُّر الكميات المطلوبة من السوق السوداء بأسعار مضاعفة، ما أدى إلى رفع أجور السيارات العمومية أضعافاً. وأضيفت هذه المعاناة إلى المعاناة الدائمة في نقص غاز الطبخ ومازوت التدفئة وتقنين الكهرباء. وتتزامن، كذلك، مع معاناة السوريين من صعوبات في تأمين الخبز بعد قرار بيعه عبر البطاقة الذكية، وهم الذين يعانون من انخفاض جودته وانبعاث روائح كريهة منه، مع العلم أنه أصبح الوجبة الرئيسية على موائدهم. وتضاف هذه الأعباء إلى ارتفاع أسعار الأدوية، كأحد تداعيات قرار زيادة سعر الدولار الجمركي الخاص بتمويل المستوردات للمرة الثانية، في حزيران/ يونيو الماضي، بعد زيادته، في شباط/ فبراير الماضي، ما انعكس ارتفاعاً في أسعار الأدوية وفقدان بعضها، خصوصاً أدوية الأمراض المزمنة، من الأسواق بغية احتكارها، علاوة على إغلاق بعض الصيدليات.
لا يقتصر فقر السوريين على ضيق الحال، ففقرهم مستمر حتى أجيال مقبلة، ستشهد رهنَ حياتهم من جديد للمصارف الدولية من أجل تأمين تمويل إعادة إعمار بيوتهم التي ستكلفهم الوقوع تحت رحمة هذه المصارف، إلى آجال غير محدودة. علاوة على أن إعادة إعمار البلاد وبناها التحتية التي ستكون لها أكلاف تمنع الحكومات المقبلة من الاضطلاع بدور اجتماعي تتطلبه مرحلة محو أثار الحرب من المشهد ومن النفوس، وهي المهمة الأصعب.
المصدر: درج