محمد بن يوسف كرزون روائي سوري متميّز، هذه الرواية الثانية التي أقرؤها له، بعد رواية السّهاف. (علم نفس الأغنام) رواية تعتمد أسلوب السرد بلغة المتكلِّم لبطلها حسن، كما أنّ الحدث الروائيّ يتطوّر مع التسلسل الزمنيّ وتتابع الاحداث.
حسن شابّ سوريّ حصل على الشهادة الجامعيّة بعلم النفس منذ عدّة سنوات، وهو عاطل عن العمل منذ تخرّجه، وهذا ما يحصل مع أغلب الخرّيجين الجامعيّين، في بلد تدفع بأولادها إلى الجامعات، حسب نظريّة الاستيعاب الجامعيّ، دون التفكير بإمكانيّة أن يجدوا عملا بعد حصولهم على شهاداتهم الجامعية، طبعا إلّا ما ندر من أصحاب الحظوة والمقرَّبين من النظام ودوائره. وهكذا يجد الشاب نفسه وقد راكم عمره العلميّ، ووصل إلى سنّ النضج والحياة العمليّة دون أُفق مستقبليّ. حسن مرتبط بــ(زهرة) الفتاة الخرّيجة الجامعيّة أيضا، في فرع اللغة الإنكليزية، مازال يصبّرها حتّى يحصل على عمل لكي يتزوّجا.
التقى حسن بصديقه (ماجد)، وبعد الاطمئنان عن الأحوال، علم ماجد أنّ حسن يبحث عن عمل، وأنّ ماجد نفسه خرّيج جامعيّ في فرع الجيولوجيا، وأخبر ماجد حسن أنّ لديه فرصة عمل مناسبة له، وأخبره أنّه نفسه يعمل راعيا وفي تربية الأغنام، ويدعوه للتعرّف إلى الرجل الفاضل الذي ساعده في ذلك. إنّه (الحاج عارف النافع)، تقبّل حسن الفكرة بعد أن استغرب كيف يعمل صديقه راعيا وهو خرّيج جامعي، لكن واقع البطالة وعجزه عن تأمين عمل له، وانتظاره ذلك سنينَ دون طائل، جعله يتقبّل الفرصة ويتعرّف على الحاج عارف. حصل التعارف، وشجّع الحاج عارف حسن على العمل باعتباره شرفا للإنسان، لا يهمّ نوعه، المهمّ أن يكون شريفا ويؤمّن فرص الحياة الكريمة للإنسان. أقنع الحاج عارف حسن بتقبّل فكرة العمل بالرعي، وقدّم له مساعدة لشراء مجموعة أغنام، وساعده في استئجار بيت صغير وحظيرة لتربية الأغنام ومبيتها، وأرشده إلى أولويّات عمله، وشجّعه على البدء. وكانت أهمّ نصيحة قدّمها له، هي أن يعطي عمله اهتمامه وجهده ومحبّته أيضا. وبالفعل بدأ حسن في تربية الأغنام والرعي والاعتناء بالقطيع، وبدأ ينجح في ذلك، وبدأ يزداد إنتاجه، فأعاد المبلغ الذي دفعه الحاج عارف من جيبه ليبدأ مشروعه، ومن ثمّ بدأ يجمع بعض النقود، لكي يتمكّن من الزواج من خطيبته زهرة التي فرحت بعمله وشجّعته عليه، وما هي إلّا فترة حتّى استطاع الزواج من زهرة في حفل متواضع حضره أهله وأهلها وبعض الأصدقاء والأقرباء. أصبح حسن مولعا بأغنامه، كان ينام معها في كثير من الأحيان، وأصبح فاهما لكلّ ما تمرّ به في أطوار حياتها، استفاد من دراسته في علم النفس، وبتشجيع من زوجته زهرة، بدأ بدراسة بعض الكتب التي تتحدّث عن علم نفس الحيوان، ورويدا رويدا نضجت فكرة أن يكتب بحثا عن علم نفس الأغنام، وبتشجيع من زوجته زهرة، كتب بحثا حول تجربته مع الأغنام، وترجمته زوجته وأرسلته إلى إحدى الجامعات الأوروبيّة، ودخل ضمن مسابقة علميّة في هذا المجال، ومرّت الأيام، وجاء ردٌّ على دراستهم بنجاح بحثهم في المسابقة، وأنّهم قد دعوه مع زوجته للسفر إلى ذلك البلد الأوروبيّ لاستلام الجائزة، وبالفعل ذهب مع زوجته، وتمّ التعامل معهم بكلّ احترام وودّ، سألوهم عن تجربتهم، وشجّعوهم على إكمال بحثهم، وقدّموا لحسن فرصة الحصول على منحة يكمل بها بحثه ليحوّله إلى كتاب. وهكذا عاد حسن وزوجته زهرة إلى الوطن وهم ممتلآن أملا وامتنانا، وكلّهم نشاط حتّى ينضجوا بحثهم ويحولوه إلى كتاب، وتمّت بينهم وبين الجامعة متابعات دوريّة، وكانت الجامعة راضية عن جهد حسن وأعماله.
كان قطيع حسن قد ازداد عدده، واستعان بمن يعمل عنده ومعه، اشترى حظيرة أكبر وتوسّع في زراعة الأراضي من أجل تأمين الأعلاف الخضراء، توسّع بشراء الأراضي لاستثمارها. ساعد من حوله وخاصّة الحاج عارف. وعلى مستوى كتابه، فقد اعتمدته الجامعة كمادّة دراسيّة، ودعوه ليكون مدرّسا لها، وتدور حول علم نفس الأغنام، وبمرتّب جيد ، كما حصل على أتعاب الكتاب. ذهب مع زوجته، إلى البلد الأوروبيّ، وعمل باحثا زائرا، كما منحوه دكتوراه فخريّة عن جهوده وبحوثه العلميّة، واعتبروه مبدعا لاختصاص لم يسبقه أحد له: علم نفس الأغنام.
وأخيرا عاد حسن وزجته إلى بلده محمّلا بالفائدة الماليّة والشهادة العلميّة والخبرة العمليّة، وبدأ يتوسّع في أعماله ويقدّم النموذج الجيّد الذي يجب أن يُحتذى. ساعد الحاج عارف ووالدَه ووالدَته لكي يذهبوا إلى الحج ويذهب هو معهم، تمنّع الحاج عارف بداية، لكنّه قبل بعد أن تعهّد حسن أن يقدّم دعما ماليا لأصحاب المشاريع الصغيرة للبداية في رحلة حياتهم، مثلما حصل معه هو. كما عرّف الحاج عارف حسن على (العمّ طاهر) شيخ الرعاة، وكان نموذجا للرجل الفاضل الحكيم، والذي قضى عمره راعيا، لكنّه لم يكتفِ بذلك، بل كان دائم القراءة والمعرفة، وكتب الكثير من خبرات الحياة التي مرّت عليه. أخذ حسن ما كتبه العم طاهر، وطبعه كتابا مهمّا ووزّعه، في المدارس والمراكز الثقافيّة، كما صحب العم طاهر إلى كثير من الندوات ليتحدّث عن تجربته وفرادتها.
كان حسن ينتقّل من نجاح إلى نجاح، وكان يذلّل كلّ الصِّعاب. كما عاد إلى جامعته، وتواصل مع مدرّسيه والمسؤولين في الجامعة الغربيّة، واستخدم منبرها للحديث عن تجربته التي أصبحت مفخرة للجامعة. وكان يقف على مسافة من المسؤولين الحكوميّين الذين يعرف أنّهم يعملون لمصالحهم الخاصّة، وانتهازيّين، ولكنّه يضطّر للاستعانة بهم، أو الحصول على موافقاتهم لتسهيل بعض أعماله. وبعد مضيِّ سنوات على تجربة حسن، جاءه الحاج عارف ليسلّمه أمانة متابعة طريق مساعدة الشباب البادئ في رحلة الحياة، وأنّ حسن سيكون خير خلف لخير سلف.
وهكذا تنتهي الرواية بمتابعة حسن طريق الحاج عارف لصناعة نماذج إنسانيّة، تستفيد من الممكن، وتحوّله إلى حياة أفضل ، وتبني مجدها الإنسانيّ، مهما كان متواضعا.
في التعقيب على الرواية أقول:
- كما عوّدنا الكاتب محمد بن يوسف كرزون، فنحن أمام رواية تصنع نماذج إنسانيّة ممتازة ومتميّزة في الرواية، وكأنّها دعوة علنيّة للتعلّم منها لصناعة حياة مشابهة ناجحة.
- لقد انتصر الكاتب لقيمة العمل، واعتبرها مقدّسة، والإخلاص بالعمل بحيث تعطيه وقتك وجهدك وبعضا من روحك، وهكذا يكون ناجحا.
- إعطاء القيمة لمفهوم المساعدة والعمل الصالح، دون التفكير بالمردود المادّيّ، سوى الانتصار لقيمة الخير وحبّ مساعدة الناس، كما الانتصار لفكرة التعلّم والمواظبة العلميّة، وأنّنا لن نتقدّم دون الاعتماد على العلم والتعلّم والتثقّف وبناء مجتمع المعرفة.
- التأكيد على أنّ الإنسان العامل الـمُجِدّ يستطيع أن ينجح وإن كان النظام السياسيّ سيّئا والمسؤول انتهازيّا أو مصلحيّا. وكأنّه يومئ لواقع سورية قبل الثورة، وعمل الناس ليصنعوا حياتهم الأفضل في ظروف حياة قاسية ونظام مستبد ظالم.
- شخصيّة المرأة في الرواية تقدّم نماذج تعيش معنا مدى العمر، منها الأمّ، أمّ حسن، بحنانها الفائض على أولادها، وبعملها الدؤوب من أجل تربية أولادها أحسن تربية، وتعليمهم الصبر على صعوبات الحياة. ومن الشخصيات النسويّة في الرواية شخصيّة زهرة تلك الفتاة المثقّفة الواعية التي تعرف معنى حقوق الزوجيّة، وتستخدم علمها الذي حصّلته خير استخدام، في معاملاتها وفي تفكيرها. وهناك شخصيّات نسائيّة أخرى متعدّدة يجدها القارئ في ثنايا هذه الرواية.
- الرواية تنتصر للخير والعمل الصالح والعلم والتعلم والتديّن المتنوّر والاحترام العائليّ، وردّ الجميل، ونجدة الآخرين، والتربية الصالحة، وكلّ القيم النبيلة التي نحتاج إليها.
- رغمَ أنّ هذه الرواية يغلب عليها طابع التوجيه التربويّ غير المباشر، فهي تقدّم المجتمع بشكل واقعيّ مألوف، هو مجتمعنا الحقيقيّ، بل يقدّم القسم الذي يهرب أكثر الروائيين من تجسيده في رواياتهم، بحجّة السعي نحو الأحداث الملفتة للنظر عند القارئ، وليس هناك ما يلفت نظر القارئ العربي أكثر من أن تلامسه الرواية ملامسة مباشرة حتّى يحسب أنّها تحكي عن تجربته الخاصّة.
- أخيرا تنتمي الرواية إلى النموذج التربويّ التعليميّ الذي يغرس القيم السامية عبر الرواية والحكاية والعبرة والنموذج والمثل الأعلى.