أثارت تصريحات بشار الأسد لقناة (روسيا 24 ) يوم الأربعاء ، 4 – 3 – 2020 ، لدى الكثيرين شعوراً ينطوي على مزيج من الاستغراب والسخرية بآن معاً، ولعلّ مبعث هذا التباين في شعور الجمهور العام هو التوقيت الذي جاء كلام رأس النظام في سياقه، إذ سبق لبشار الأسد أن وصف التهديدات العسكرية قبل انطلاقها في الثامن والعشرين من شهر شباط الفائت بأنها (مجرد فقاعات)، كما سبق له أن وصف الرئيس التركي أردوغان بـ (السارق) أثناء لقاء له مع عدد من جنوده، ولكن ما إن انتقلت هذه التهديدات إلى طور الأفعال، حتى فوجئ الجميع بقوله عن تركيا: (هناك عائلات سورية تركية …. وهنالك مصالح مشتركة حيوية، التداخل الثقافي المتبادل حدث تاريخياً، وبالتالي فمن غير المنطقي أن يكون بيننا وبينهم خلافات جدية).
ما يضمره كلام بشار يوحي – دون أدنى شك – برغبة واضحة نحو التراجع عن التصعيد، واللجوء إلى لغة اللين، بل الاستجداء، الأمر الذي جعل الكثيرين يقرنون هذه الانعطافة في خطاب الأسد إلى تزامنها مع لقاء (بوتين – أردوغان) المرتقب يوم الخميس ( 5 آذار الجاري)، إذ يمكن أن يكون لهذه التصريحات – وفقاً للبعض – دور في إظهار (حسْن النيّة) نحو الوصول إلى وقف العملية العسكرية التركية في الشمال الغربي من سوريا، وربما ذهب البعض إلى أن ما نشرته القناة الروسية على لسان الأسد، إنما يحمل رغبة إيران بالتفاهم المباشر بين تركيا والنظام الأسدي، بعيداً عن السطوة المطلقة لبوتين، كما يحمل خشية إيران والأسد معاً، من صفقة روسية تركية، قد يكون ضحيتها رأس النظام ذاته.
على أية حال، لا تسعى هذه المقالة إلى تقصّي التحليلات السياسية المتعلقة بما نشرته قناة روسيا 24 ، بقدر ما تهدف إلى الوقوف عند ظاهرة التباين المفاجئ في خطاب السلطة الأسدية بما في ذلك (الأب حافظ)، ولا يعود هذا التباين إلى ما يعزوه البعض نحو نهج براغماتي في السياسة، أتقنه حافظ الأسد وورثه ابنه بشار، ولا يعود كذلك إلى ما تقتضيه الضرورة، من حيث القدرة على مواكبة المستجدّات وسرعة التلاؤم مع المواقف المستجدّة، بل يعود – كما أعتقد – إلى بنية تفكير أي حاكم أوغل في الاستبداد، إلى درجة بات يرى فيها أن فناء الشعب مقابل بقاء الحاكم في رأس السلطة قمة العدالة، كما يرى أن ثمة تلازماً حتمياً بين استمرار شدّة التنمّر، بل التوحّش حيال الشعب المحكوم، وبين شدّة الوضاعة والتذلّل أمام الآخر (المفترض أن يكون عدواً خارجياً).
في خريف 1998 لم يشأ حافظ الأسد أن يقبل بتسوية أو تفاهم مع حكومة أنقرة آنذاك، بشأن إيوائه لحزب العمال الكردستاني، بل أصرّ على أن يجعل من الأراضي السورية واللبنانية ملاذاً آمناً لمعسكرات تدريب لمقاتلي حزب pkk ، فضلاً عن إيواء رأس قيادة الحزب المتمثلة بعبد الله أوجلان، وحين بادرت الحكومة التركية إلى حشد قواتها على الحدود السورية التركية، وهدّدت بتعقب نظام الأسد إلى قلب دمشق، حينها لم يجد حافظ الأسد بدّاً من الاستنجاد بوساطة حسني مبارك، تلك الوساطة التي انتهت إلى قبول الأسد بالتوقيع – صاغراً ذليلاً – على اتفاقية (أضنة) التي أتاحت بنودها لتركيا بتعقّب حزب عناصر حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي السورية بعمق يمتد إلى 10 كم، متى تشاء، فضلاً عن تعهّد نظام الأسد بعدم المطالبة بلواء اسكندرون، إضافة إلى استجابة الأسد بطرد عبد الله أوجلان فوراً خارج الأراضي السورية، وربما تبرّع الأسد آنذاك – رغبةً منه بإثبات حسن النية – بإبلاغ تركيا عن وجهة أوجلان بعد طرده.
الاستعداد الكبير لدى الأسد ( الأب) للتحوّل من (التنمّر والتوحّش)، إلى (الاتضاع والهوان)، لم يكن طبعاً مفارقاً لوريثه (الأبن)، حين أطلق عبارة (أنصاف أو أشباه الرجال) على كلٍّ من الرئيس المصري حسني مبارك والملك عبد الله بن عبد العزيز، ملك السعودية، في أعقاب حرب تموز( 2006 ) حين وصفا قيام حزب الله بأسر جنديين إسرائيليين، تسببا بهجوم إسرائيلي على الضاحية الجنوبية بلبنان، بـ (المغامرة)، وقد فوجئ الجميع – آنذاك – بسعي محموم من بشار الأسد للبحث عن أي سبيل يمكّنه من تقديم اعتذاراته، كما فوجئ الجميع أيضاً، بعد أسابيع، ببشار الأسد وهو يقلّد الملك عبد الله وسام أميّة، أثناء زيارته دمشق.
لعلّها لم تعد من المفارقات الغريبة لدى معظم السوريين، أن يشاهدوا الطائرات الإسرائيلية تصول وتجول في فضاء سوريا، مُستهدفةً أوكار حزب الله وميليشيات إيران، أينما تواجدت، دون أي رادع يُذكر، وغالباً ما يؤدي هذا الاستهداف إلى مقتل ضباط وجنود سوريين تابعين لنظام الأسد، ومع ذلك، لم تغظ صولات إسرائيل في الفضاء السوري حفيظة النظام، طالما أنّه ضامن لحق الردّ، ولكن ليس على إسرائيل، بل على رؤوس السكان المدنيين في إدلب وأرياف حلب وحماة وسواها من البلدات والمدن السورية. كما بات من المعتاد لدى السوريين، ان يروا جلّادهم بين الحين والآخر، يقف ذليلاً مُهاناً بين يدي بوتين، مرةً ينهره ضابط روسي، موعزاً له بالتوقف، وعدم التقدّم والوقوف بمحاذاة بوتين، ومرة باستدعائه إلى مقر القوات الروسية بدمشق.
إن استهداف قوات الأسد لجنود أتراك، أدى إلى مقتل ثلاثة وثلاثين منهم، أو ربما أكثر بقليل، جعل بشار الأسد يقفز من ضفة التصعيد و(العنترية) إلى ضفة التذلّل والاستجداء، بينما استمراره في حرب على السوريين منذ تسع سنوات، أودت بحياة أكثر من مليون مواطن، وتشريد الملايين، لم يدفعه سوى إلى المضيّ نحو تحقيق نظريته في (التجانس – الأرض لمن يدافع عنها)، أي استبدال الشعب السوري، بشعب آخر، يلبي رغبة آل الأسد بالاستمرار في السلطة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا