
رحل الشاعر حسن النيفي في فرنسا، ولم يزر سوريا بعد سقوط النظام، لكن جثمانه عاد الى مسقط رأسه ليوارى الثرى في مدينة منبج وسط حشد كبير، وذلك دليل على مدى التقدير والاهتمام الذي حظي به هذا الرجل الذي قضى 15 عاما من شبابه في سجون النظام السوري بتهمة الانتماء إلى حزب البعث جناح العراق، وخرج من هناك من دون أن يقدم تنازلا، أو ينحني أمام جبروت آلة التعذيب التدميرية.
غادر حسن سوريا، مثل ملايين من السوريين ثاروا ضد حكم عائلة الأسد عام 2011، وتوجه إلى تركيا في 2014، حيث استقر مع عائلته في مدينة غازي عنتاب القريبة من الحدود بين البلدين، ومن ثم انتقل في عام 2023 الى مدينة ميتس في فرنسا، لاجئا سياسيا بعد أن يأس، مثل أغلبية السوريين، من امكانية حصول تغيير يسمح بالرجوع إلى البلد. وحسب بعض الأصدقاء أن الدافع الأساسي من وراء هذه الغربة الجديدة هو البحث عن افق مستقبلي للصغار من عائلته، بعد أن بات ذلك صعبا في تركيا، التي شددت قوانينها تجاه اللاجئين السوريين، وتفشي موجة العنصرية التي بدأت ترتفع وتيرتها بقوة ضد العرب في الأعوام الأخيرة.
التقيته مرات قليلة في ندوات حول القضية السورية، عقدها مركز حرمون في اسطنبول عام 2020 قبل أن يستفحل وباء كورونا، وتتضاءل اللقاءت، وتحل محلها مراسلات عن طريق وسائل التواصل. كلانا لم يكن بارعا في التراسل عن طريق فيسبوك، ولم يتجاوز عدد المكاتبات عشرة، لكني حينما عدت اليها بعد سماعي خبر رحيله تفاجأت بأننا كنا نتناول قضايا كثيرة على نحو صريح، كما لو أننا نعرف بعضنا منذ زمن طويل.
لم تسمح لي اللقاءات القليلة والمراسلات المحدودة والمختصرة من التعمق في معرفة حسن على نحو يسمح لي بأن اتوسع في الكتابة عنه، ولكني شعرت بحزن شديد كما لو أني عرفته لعمر طويل. لا أدري سبب شعوري بأننا أصدقاء عمر، درسنا معا في الجامعة، ودخلنا السجن وتهجرنا سوية. كل ذلك لم يحدث، وحصل اللقاء بيننا بفضل الندوات، لكن مشاعري تطورت تجاهه بفضل مداخلاته التلفزيه على شاشة تلفزيون سوريا، ونتيجة قرائتي لعدد كبير من مقالاته المنشورة على موقع القناة، وشدني فيها نبرة الصدق والحس النقدي تجاه وضعنا السوري، الذي غرق في بحر من التردي، فلا النظام تحلى بالحرص على عدم التفريط بالبلد وأهله، ولا معارضته اختلفت عنه. وكنت أحس أن الرجل لا يتحدث من مكان مرتفع، بل من موقع الذي يتألم على حالنا، بعد أن وصل الى القاع، ولم يعد في اعوامه الأخيرة يسر أحدا.
من بين صفات حسن وقفت عند ثلاث، التواضع، والصراحة، والود. ليس من الذين ساروا على نهج المباهاة بأعوام سجنه، والباحثين عن مقابل لذلك، والمزايدين على الجميع، وفي كل لحظة يذكرون الناس بسجون تدمر وصيدنايا إلى حد اشعارهم بالإثم الوطني، وتأنيب الضمير، والشعور بالنقص، وانعدام الكرامة، لأنهم لم يدخلوا السجن، واستمروا يمارسون حياتهم داخل البلد وخارجه.
صراحة حسن من النمط غير المفتعل، فهو لا يبذل جهدا كبيرا كي يشير إلى الأخطاء، ومن يستمع الى حديثه يستنتج انه يتكلم من دون تكلف، يذهب الى الفكرة على سجيته من دون تفلسف أو ادعاء، ما يهمه أن يقول كلمته، ولا يخشى في ذلك أحد، فقد سبق له أن دفع ثمن رأيه أعوام سجن وحرمان من الحقوق، ولم يكن يثنيه أن يعاود السيرة مرة ثانية.
صراحة لا تهدف الى الاستفزاز، ترد في خطاب يحمل قدرا واضحا من احترام الذات قبل الآخر، وهذا ما يتجلى في المودة اتي كان تفيض من حديثه ومراسلاته، لتعكس معدنه الصافي، الذي لم يتلوث خلال أعوام التغريبة السورية القاسية.
لا يتسع المجال للحديث عن شعر حسن، لكن ثمة ملاحظة مهمة لا يجد القارئ المتمعن صعوبة في التقاطها، وهي تتمثل في فيض ملحمي، كما في قصائد شعراء الفروسية، وقد يكون ذلك هو السر في النبالة التي تمتع بها حتى آخر رمق من حياته، ولم يتنازل عنها رغم أنه عاش في زمن بائس، وصادف في درب حياته قدرا غير قليل من التافهين والبعيدين كل البعد عن القيم الكبرى، التي آمن بها، وسار في طرق التشرد كي لا يتنازل عنها، فمات عزيزا مرفوع الرأس، وحفظ له أهل منبج كل ذلك، فشيعوه بالورود.
المصدر: المدن






