
في الفترات التي تعيد فيها المجتمعات طرح سؤال الدولة، يكثر الحديث عن البناء ويقلّ الاتفاق على المقصود به. تُستخدم الكلمة ذاتها لكن بمعانٍ مختلفة، وأحياناً متناقضة، بحيث يصبح النقاش حول الدولة نقاشاً لغوياً بقدر ما هو سياسي. فالدولة تُستدعى في الخطاب العام أكثر مما تُعرَّف، وتُستخدم أكثر مما تُفهم.
الجميع يستحضر مفهوم “الدولة” في حديثه، لكن كل طرف يحمّله ما ينسجم مع تصوّره ومصلحته: سلطة أكثر حضوراً، إدارة أكثر فاعلية، أو قدرة أكبر على الاستجابة. نادراً ما يُطرح السؤال الجوهري: هل تغيّر فهمنا للدولة فعلاً، أم أننا نعيد إنتاجها بالذهنية ذاتها، مع اختلاف الأدوات والوجوه؟
ليست الإشكالية دائماً في غياب القوانين أو ضعف الهياكل، بل في التصوّر العميق الذي يحكم العلاقة بين الدولة والمجتمع. فعندما تُفهم الدولة بوصفها جهة مانحة تُكافئ وتحتوي وتستجيب عند الحاجة، لا منظومة التزامات ثابتة تخضع للمساءلة، يصبح الخلل بنيوياً لا عارضاً، ويغدو الإصلاح محدود الأثر مهما حسنت نواياه.
من هنا لا يسعى هذا المقال إلى تقديم وصفة جاهزة أو نموذج مثالي، بل إلى التوقف عند شرط غالباً ما يُهمل في النقاشات العامة: شرط تغيير الذهنية. فقبل البرامج والخطط والهياكل، هناك طريقة تفكير يجب أن تُراجَع، لأن الدولة لا تُبنى فقط بما يُكتب في الدساتير، بل بما يُمارَس في الوعي اليومي وفي العلاقة الفعلية بين المواطن والسلطة العامة.
المشكلة ليست في القيم التضامنية بحد ذاتها، بل في تحويلها إلى بديل عن الدولة. حين تتحول العدالة إلى “شهامة”، والحقوق إلى “طيبة قلب”، تصبح الدولة رهينة الأخلاق الفردية، لا القواعد العامة..
لا تنهار الدول دفعة واحدة، ولا تُبنى دفعة واحدة أيضاً. ما ينهار أولاً هو الفكرة، وما يُبنى أولاً هو الذهنية. وقبل أن نسأل عن شكل الدولة، أو طبيعة نظامها، أو هوية القائمين عليها، هناك سؤال أبسط وأخطر: كيف نفهم الدولة في وعينا اليومي؟ هل نراها مؤسسة عامة تعمل وفق قواعد، أم سلطة تمنح وتمنع، تُحسن حين تشاء وتغضب حين تشاء؟
في حياة الناس اليومية، لا يظهر غياب الدولة في القوانين، بل في التفاصيل الصغيرة: حين يحتاج المواطن إلى “واسطة” أو “تزكية” ليحصل على حقه، وحين يشعر أن الخدمة العامة فضل لا استحقاق، وحين يتعامل مع أي تدخل رسمي بوصفه إحساناً يستوجب الامتنان لا إجراءً طبيعياً. هنا بالضبط يتجلّى الخلل الذهني الذي يمنع قيام الدولة، حتى لو وُجدت كل هياكلها الشكلية.
لقد ترسّخ عبر عقود طويلة من الحكم السلطوي نموذج سياسي واجتماعي قائم على منطق المنح والمكرمات والفزعات؛ نموذج يبدو في ظاهره قريباً من الناس، لكنه في جوهره يُضعفهم. فالمنحة تُعطى ولا تُطلب، والمكرمة تُشكر ولا تُناقش، والفزعة تُنقذ اللحظة لكنها لا تبني الغد. هكذا يُربّى المجتمع على انتظار الحل من فوق، لا على المطالبة به ضمن إطار واضح.
المشكلة ليست في القيم التضامنية بحد ذاتها، بل في تحويلها إلى بديل عن الدولة. حين تتحول العدالة إلى “شهامة”، والحقوق إلى “طيبة قلب”، تصبح الدولة رهينة الأخلاق الفردية، لا القواعد العامة، ولا مفهوم الوظيفة العامة بوصفها أمانة عامة. وهذا أخطر أشكال الهشاشة، لأنه يربط مصير الناس بأشخاص لا بمؤسسات.
الدولة الحديثة، على العكس من ذلك، تقوم على فكرة بسيطة لكنها حاسمة: المواطن لا يطلب معروفاً، بل يتمسك بحقه ويقوم بواجبه ويحميه القانون. الدولة لا تُجامل، بل تُنفّذ. وحين تختل هذه المعادلة، تختل الثقة، ويتحوّل الشعور بالانتماء إلى شعور مؤقت، مرتبط بالأزمات لا بالمستقبل.
الانتقال من منطق المكرمة إلى منطق البرنامج ليس تغيير لغة رسمية أو إعادة تسمية سياسات، بل هو تغيير في العلاقة النفسية بين المواطن والدولة. البرنامج يعني أن هناك هدفاً معلناً، وخطة واضحة، ووقتاً محدداً، ومعايير يعرفها الجميع.
البرنامج لا يحتاج إلى تصفيق، بل إلى تقييم، ولا يحتاج إلى شكر، بل إلى رقابة.
إن بناء الدولة هو، في أحد أبعاده العميقة، عملية تربوية طويلة: تربية على الصبر المؤسسي لا على الفزعة، وعلى الحق لا على الامتنان، وعلى السؤال لا على الصمت. وهو أيضاً تحول أخلاقي، لأن المحاسبة تتطلب شجاعة، والشفافية تتطلب ثقة، وكلاهما لا ينموان في مناخ المكرمات.
وهنا تبدأ المحاسبة، لا بوصفها انتقاماً أو تشكيكاً، بل بوصفها حقاً مجتمعياً. المحاسبة والرقابة والمتابعة واجب وحق. المجتمع الذي لا يُحاسب لا يثق، والمجتمع الذي لا يثق لا يستقر. حين يعرف المواطن أن التقصير سيُسأل عنه، وأن النجاح سيُقاس لا يُمجّد، تتغير نظرته للدولة من كيان غامض إلى شريك يمكن الاعتماد عليه.
غير أن هذا التحول لا يحدث تلقائياً، ولا بمجرد تغيير السلطة أو إسقاط نظام. كثير من السلطات الجديدة تقع في فخ إعادة إنتاج المنطق ذاته، ولكن بلغة مختلفة؛ تستبدل “المكرمة” بشعار، و“الفزعة” بحملة إعلامية، و“المنحة” بمبادرة استثنائية. والنتيجة واحدة: إدارة مؤقتة للغضب، لا بناء دائم للثقة.
الأخطر أن المجتمع نفسه قد يساهم، من دون وعي، في ترسيخ هذا النموذج؛ حين يطالب بالاستثناء بدل القاعدة، وبالحل الفردي بدل الحل العام، فهو يضعف الدولة التي يريدها قوية. فالدولة لا تُبنى بما نأخذه منها، بل بما نطالبها أن تلتزم به تجاه الجميع.
إن بناء الدولة هو، في أحد أبعاده العميقة، عملية تربوية طويلة: تربية على الصبر المؤسسي لا على الفزعة، وعلى الحق لا على الامتنان، وعلى السؤال لا على الصمت. وهو أيضاً تحول أخلاقي، لأن المحاسبة تتطلب شجاعة، والشفافية تتطلب ثقة، وكلاهما لا ينموان في مناخ المكرمات.
في النهاية، الدولة ليست سلطة تمنح، ولا مجتمعاً يشكر، بل عقد واضح بين طرفين متساويين في الكرامة، مختلفين في الدور. حين ننجح في ترسيخ هذا الفهم، يصبح الحديث عن الإصلاح واقعياً لا رومانسياً. أما دون ذلك، فسنظل نغيّر الوجوه ونُبقي الذهنية، ونستغرب في كل مرة لماذا لا يتغير شيء.
المصدر: تلفزيون سوريا






