
ما بين سوريا وفلسطين تشابه أحداث وشخوص بين أعوام كبيسة وثوار حبيسة، والتاريخ يعيد نفسه وأحداثه، وكانت أكثر أيامه فقع مرارة لرواد التحرّر والشفاء لشعبٍ يحكمه طغاة مستبدون.
وللراحل غسان كنفاني مجموعة قصصية تحمل عنوان” موت سرير رقم 12″، تحمل في طياتها تفاصيل دقيقة عن الحياة تحت وطأة الاحتلال واللجوء، وتعبر عن مشاعر الفقد والألم والأمل، جسّد فيها كنفاني تجربته الشخصية عندما كان يعاني من مرضٍ شديد، حيث ينام على سرير المستشفى رقم 12، مستعرضاً أفكاره وتأملاته حول الحياة والموت، بأسلوبه الأدبي المميز واستكشاف عمق الوجود الإنساني في ظلّ القهر والظلم.
كنفاني فلسطين نجد من يشابه شخصيته في سوريا وهو الأستاذ حسن النيفي، والذي أيضاً عانى وظُلم كما ظُلم كنفاني، والاثنان يتشابهان بأنّ السياسة أخذتهما من محافل الأدب ومسارح الإبداع اللغوي والروائي، وتجد في دواخلهما وأنت تقرأ لهما تجرد الذات وسمو الروح، وقد كتب كنفاني حينها على سرير مرضه، “كنت أعيش من أجل غدٍ لا خوف فيه، وحياتنا ليست شيئاً، وأنّها تبلغ ذروة قيمتها لو قُدمت من أجل سعادة آلاف غيرنا”.
وتجد ما يشابه ذلك تماماً في كتابات وأحاديث الأستاذ حسن النيفي، وخلال لقاء مصور له يقول: “لقد ظلمت كثيراً، نعم، ولكن لا أرضى الظلم أو يمارس الظلم على أيّ إنسانٍ أو أيّ كائنٍ” وأضاف كأنّه مانديلا في التسامح: “لو وجدت السجان أمامي والذي كان يضربني، لا يمكن أن أضربه، لأنّني لست سجّاناً”.
أبو عبد الله مرّ عليه ما فقع مرارته، من مرارة إحساسه بالظلم الذي عاشه والذي مرّ على أهل وطنه، فقلص ذلك نبضه ونبض كلّ حرّ شريف ووافته المنية على سرير الموتى بمنفاه في فرنسا.
وقد أمضى النيفي 15 عاماً من عمره في سجن تدمر العسكري، من عام 1986 إلى 2001، واعتقل حينها من جامعة حلب وهو طالب لغة عربية، وأطلق سراحه وعمره 38 عاماً وقد حرمه نظام الأسد من كلّ حقوقه المدنية ومنع من السفر خارج البلاد وطُلب منه مراجعة الفروع الأمنية كل فترة.
صدر له ديوانه الشعري الأول (هواجس وأشواق) عام 1985 وفي عام 2004 أصدر ديوانه الثاني (رماد السنين)، استذكر فيه قصائده التي نظّمها في سجن تدمر العسكري، وفي عام 2010 أصدر ديوانه الثالث (مرافئ الروح)، وعندما انطلقت الثورة السورية كان من أوائل المنظمين لصفوفها وعمل مع ثوار مدينته منبج وأسهم في تأسيس حراكها الثوري ومجلسها المدني، وكذلك عمل في المكتب السياسي في مجلس محافظة حلب الحرة في عامي 2014 – 2015، وبعد أن احتلت داعش مدينة منبج وسلبته بيته ومكتبته وأهدرت دمه، هاجر إلى تركيا واستقر فيها حوالي 9 سنوات، وكان له نشاط وحضور إعلامي لافت بمختلف وسائل الإعلام المرئية، وكتابات في العديد من المواقع الصحفية.
وكما جمع الراحل غسان كنفاني بين الأدب والسياسة، كذلك كان الأستاذ حسن النيفي يجيد ذلك بثقافة الانتماء لقيم الحرية ورفع الظلم عن الإنسان، وفي عام 2022 هاجر مرّةً أخرى لمنفاه الأخير بفرنسا كلاجئٍ سياسي ومن هناك بقي يتفاعل مع الأحداث بوطنه سوريا.
كان الراحل حسن النيفي رجلاً بكلّ ما تعنيه الكلمة، في زمن التبست فيه المواقف وكثرت فيه الوجوه حتى صارت الأقنعة أكثر من الوجوه نفسها، وغابت المقاييس الصادقة وصار التقييم على قدر الصورة لا على قدر الموقف وعلى بريق اللافتة لا على وهج الفعل.
لكنّ الحقّ لا يضيع ما دام هناك رجال أمثال حسن النيفي، لا تُقاس قيمتهم بما يلتف حولهم، وما يمتلكونه من مالٍ وجاه بل بما يزرعونه في أرض الوطن من أثر خالد.
الأثر الخالد لأبي عبد الله بوقوفه بوجه نظام الأسد الأب، ودفاعه سنين من حياته في سبيل ذلك، وكذلك الوقوف بصف ثورة الشعب على بشار الأسد، فكان مثالاً للمثقف العضوي الذي يعيش هموم الناس وآلامهم ويشعر بها، ويأخذ على عاتقه مهمة تغيير حال الشعب للأفضل ويعيش هموم وطنه ويرتبط بقضايا أمته، بعكس المثقف التقليدي الذي يتخذ الحياد موقفاً وكلّ نتاجه المعرفي خالٍ من همومٍ ومشاكل شعبه ولا يسعى لتوظيف معرفته لنقل معاناتهم وإيقافها، ويراكم المعرفة بعيداً عن المشاكل والأزمات وحالة الاضطهاد والاستبداد التي يعاني منها المجتمع.
النيفي لم يطلب ولم يبحث عن الأضواء بل صنعته مواقفه حين عجز الآخرون، كان أبو عبد الله إذا صمت تكلم فعله وإذا تكلم صدق قوله، واختبرته سنوات التهجير ومنافي الغربة وقلة ذات اليد، إلا أنّه بقي صلب المواقف وصادق النوايا، وكان يجيد الإصغاء قبل القول والفعل قبل الضجيج، وفي هدوئه حضور عميق في جوهره لا غياب عن الساحة، كان يتعامل بالثقافة والأدب والتحليل السياسي ومقال الرأي لا كوجاهة، بل كأمانة ثقيلة لرجلٍ وهب نفسه للفكرة والمبدأ.
صوته لا يرتفع إلا حين ترتفع المصلحة العامة وكتاباته لا تنبع من نزوةٍ بل من وعي يُدرك أثر الكلمة وثمنها.
كنفاني سوريا سيبقى شاهداً على مدرسةٍ من الرجال الذين صدقوا لا يبدلون وجهاً بحسب الموقف، ولا يغيرون مبادئهم أبداً، لا يساومون على وطنٍ ولا يبيعون ضميراً.
ولم يكن يوماً من مثقفي الزيف الذين تسللوا إلى الظلال باسم الولاء، وعاشوا على فتات سلطات الأمر الواقع.
لم يبدل النيفي لونه ولم يمدح الضوء في النهار ويطعنه بالليل، ولم يكن طالباً القرب من أيّ قيادةٍ أو سلطة بحثاً عن غنيمة أو مكسب، بل كانت نزاهته تقاس بعزة نفسه، الثورة بالنسبة له انتماء وليس شعارات وصوراً، وكان لا يجيد التصفيق بل من الذين يُتقنون قول الحق حين يسكت الكثير، وكان دائماً في صف الحق لا مع الأشخاص ومع الصدق لا مع الزخرف، وبصيرته أقوى من كلّ الضجيج، وكان من رموز الصدق في زمن الزيف.
لا اعتراض على حكم الله، ولكن رحيله في غربته، وفي هذا الوقت الذي تمسّ فيه الحاجة لطهره وحصافته وصدقه مؤلم ومفجع، فيا ربّ تقبّله بجنان الخلد، فهي تليق به.
المصدر: سطور


