المناعة المجتمعية.. مواجهة المخدرات في سوريا

محمد برو

عديدةٌ وكثيرةٌ هي أوجه الدمار الذي خلّفه لنا نظام الأسد البائد، وربما كان من أسوأ ما ترك لنا حزمةٌ من الانكسارات ومظاهر الانحطاط البنيوية التي تكوّنت عبر سنوات الثورة الـ14، الأمر الذي أنتج تحولات عميقة لا يمكن الفكاك والتعافي من عقابيلها في زمن قصير.

سيحمل المجتمع السوري أمراض ولعنات تلك التركة لسنوات عدة، في هذا المشهد الغني بالتعقيد، ينبغي علينا أن نواجه أسئلة صعبة لن نجد لبعضها أجوبة مباشرة: كيف تحوّلت سوريا من “دولة حرب” إلى “دولة مخدرات”؟ وكيف تحول شبابها من وقود للمعارك إلى ضحايا للعنة الكيمياء؟

لدينا اليوم ما يمكن أن نطلق عليه اسم “جيل ضائع” بين توحّش البندقية وسطوة حبة الكبتاغون، وهنا نجد أنفسنا في مواجهة الهروب من الموت الدموي إلى الموت الأبيض الذي تجلبه حبيبات “الكريستال ميث”.

شبابٌ يهربون من البطالة والضياع والموت المسلّط على الرؤوس كل ساعة، ومن صدمات نفسية وتمزق اجتماعي وعوز وفاقة، وغياب أفق، وفساد يغرق كل شيء أخضر في هذه البلاد..

لم تكن البراميل المتفجرة والرصاص والقنابل وحدها التي تفتك بالشباب السوري، فقد تسابق معها موت صامت مخلوط بمتعة الضياع والهروب من الواقع والنسيان.

لم تبقَ سوريا ممراً لتهريب المخدرات فقط، بل غدت مركزاً عالمياً لإنتاجها وتصديرها، وبات وصول تلك الحبوب إلى أيدي الأطفال والشباب أمراً يسيراً، شبابٌ يهربون من البطالة والضياع والموت المسلّط على الرؤوس كل ساعة، ومن صدمات نفسية وتمزق اجتماعي وعوز وفاقة، وغياب أفق، وفساد يغرق كل شيء أخضر في هذه البلاد.

ليس هذا فحسب، هو سبب انتشار المخدرات في الشارع السوري، بل هناك ما هو أهم، فقد استخدمها النظام لإضفاء سمة الشجاعة الكيميائية على مقاتليه ومقاتلي الميليشيات التي كانت تدعمه، وكانت من أهم وأخطر أدواته في السيطرة عليهم واستعبادهم وتحويلهم لقتلة محترفين يخضعون للأوامر من دون أدنى تفكير أو تمييز.

فقد عمد إلى ضخ كميات هائلة من حبوب الكبتاغون (فينيثايلين) الذي يرفع قدرة المتعاطين على التحمّل، ويلغي بشكل حاد الشعور بالخوف أو تخيل التبعات، كما يمنح المقاتلين القدرة على السهر الطويل في الجبهات.

ومع مرور الأيام، أصبح هؤلاء المدمنون ناقلي عدوى لمجتمعاتهم اللصيقة بهم، وأصبحت عملية تأمين الحبوب المخدرة لهم من المهام اليومية، وبالتالي أضحت حبوب الكبتاغون -علاوة على تأثيرها المباشر- مصدراً للربح والدخل السهل.

مع هدوء الجبهات نسبياً في عام 2018، تحوّل هؤلاء المدمنون إلى شبكات تجارة داخلية هدفها الأوّل الشباب الجامعي والشباب العاطل عن العمل، فقد غدا الكبتاغون وباقي الحبوب المخدرة آلية مهمة من آليات التكيف السلبي التي يلجأ إليها الشباب مع انسداد أي أفق للحياة الطبيعية، وهي في الوقت ذاته أداة لتخدير اليأس ولتحمل السهر والجوع والبرد.

وعقب هذه الفترة انتشرت مادة الكريستال ميث (الشبو) وهي أشد فتكاً من سابقاتها؛ فهي تفتك بالجهاز العصبي بسرعة خطيرة، كما تحوّل المتعاطي خلال أيام قليلة إلى شخص عنيف جداً.

وقد انتشرت هذه المادة بشكل مرعب في الجنوب السوري ومناطق سيطرة النظام، وتميزت برخص ثمنها قياساً لغيرها من الأنواع وبرداءة تصنيعها.

لقد أصبحت المخدرات مورداً اقتصادياً وسياسياً لنظام الأسد، كما أنه جعل الحصول عليها أسهل من الحصول على ربطة خبز، الأمر الذي مكن النظام عبر شبكاته الواسعة من إغراق الأسواق المحلية والمجاورة بكميات غير مسبوقة من هذه السموم، وبالتالي تمكّنه من السيطرة على قطاعات واسعة من الشباب الذي باتت غاية اهتماماته اليومية تأمين هذه الحبوب مهما كان الثمن.

أولى نتائج هذا الانتشار المرعب كان تفكيك بنية الأسرة، فقد شهدت سوريا في هذه الفترة ارتفاعاً مهولاً في نسب الطلاق والعنف الأسري المرتبط بتفشي ظاهرة الإدمان.

صار من المألوف أن نجد الأب يبيع أثاث منزله وحلي زوجته ليبتاع تلك الحبوب، وربما شهدنا حوادث متكررة لابن يقتل أباه للحصول على المال، وصرنا نلحظ شبكات من الشباب الصغير تعمل ليل نهار على توزيع تلك المواد الممنوعة، بل وتخوض حروباً بينية في التنازع على مناطق النفوذ والبيع.

ما يزال أمل التعافي بعيداً لقطاعات واسعة من الشباب الذين أدمنوا تلك الحبوب، وربما يحتاج الشطر الأكبر من المدمنين في سوريا إلى مراحل علاجية صارمة وتعاون بين الأهل ومراكز التأهيل الصحية والنفسية قد تتجاوز العام الواحد، كما أن المدمن يحمل معه وصمته الاجتماعية، فالقطاعات الأوسع من السوريين ينظرون للمدمن كمجرم يحمل وصمة انحطاط أخلاقية لا كمريض ينبغي معالجته ومؤازرته.

هذا الخوف من الوصمة الأخلاقية ومن الفضيحة سيدفع آلاف العوائل لإخفاء معاناة ولدهم أو مريضهم؛ الأمر الذي سيوصل المدمن إلى مرحلة اللاعودة.

بالتالي نحن أمام جيل مهدد بالسلبية الاجتماعية وبالتنحي عن أي عملية تنموية، ونحتاج كسوريين لتعاون بيني كبير ولمؤازرة دولية تجعل هذه الحلول المستحيلة أمراً ممكناً.

لن يكون الحل جذرياً إلا بتوفير مراكز طبية متخصصة وحماية مجتمعية واعية، وإلى أن يصبح هذا مشروعاً منجزاً ستبقى “غرفة في بيت الجد” أو “عيادة في خيمة” هي طوق النجاة الوحيد لهؤلاء المرضى والضحايا..

إن ما نشهده اليوم من مبادرات أهلية ومحلية في درعا والشمال السوري هو تجسيد إنساني للبطولة المأساوية، هنا نجد مجتمعات بلا دولة تجهد بكل السبل الممكنة والمحدودة لحماية أبنائها بأيديها العارية.

هذه المبادرات والحملات الأهلية والعشائرية، وإن بدت قاصرة ومحدودة، إلا أنها تثبت أن الضمير الاجتماعي والإنساني السوري لا يزال حياً، لن يكون الحل جذرياً إلا بتوفير مراكز طبية متخصصة وحماية مجتمعية واعية، وإلى أن يصبح هذا مشروعاً منجزاً ستبقى “غرفة في بيت الجد” أو “عيادة في خيمة” هي طوق النجاة الوحيد لهؤلاء المرضى والضحايا.

لكن ينبغي تذكر أن العلاج في المنازل والبيئات المحلية يتم غالباً بقطع المادة المخدرة فجأة من دون تدرج دوائي، بالنسبة لمدمني “الكريستال ميث” أو “الكبتاغون”، قد يؤدي هذا إلى أعراض انسحابية مميتة (نوبات صرع، توقف قلب)، أو يدفع المدمن للانتحار من شدة الألم، وهنا تصبح نوايانا الطيبة -المفتقرة للتوجيه العلمي والطبي- أداة قتل إضافية.

المصدر:تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى