العنف السياسي العصي على التفسير

سمير الزبن

لم تكف كل المحاولات التي جرت لتفسير ظاهرة العنف لتوضيحه، وكأنّ الظاهرة عصية على الفهم والتفسير، ما احتاج إلى معالجتها المرّة بعد الأخرى، خصوصاً أن الظاهرة نفسها ليست متغيرة بطبيعتها حلّاً دموياً لخلافات البشر في ما بينهم، لكنها متغيرة في تبريرها وفي فهم أبعادها الفكرية والاجتماعية والثقافية التي تنطلق منها بين تاريخ وآخر.

العنف السياسي من أخطر تجليات العنف في المجتمعات البشرية، وهناك ضرورة ملحة لإعادة التفكير فيه، لأنّ “مشكلات العنف لا تزال شديدة الغموض”، كما قال الفرنسي جورج سوريل، وهو ما صادقت عليه حنه أرندت بعد نصف قرن من قوله هذا. ولا ينبع هذا الغموض من درجته، بل من علاقته التي تزداد غموضاً مع السياسة، على حد تعبير الإيطالي جورجيو أغامبن.

يحاول بول دوموشيل في كتابه “التضحية غير المجدية ـ بحث في العنف السياسي” الإجابة على هذا السؤال، انطلاقا من فرضية تقول إن المؤسّسات السياسية الحديثة، تنبثق عن تحول قواعد التضامن المتبادل، التي تبني العلاقات بين الفاعلين، ما يعني أن التضامن لا يمكن فصلة عن العداء. تاريخياً، نجد أن قواعد التضامن المختلفة تتلاءم دائماً مع أشكال العداء المختلفة. يشرح دوموشيل فرضيته بالقول إن العنف السياسي يبرّر نفسه بنفسه، عنف يصبح شرعياً لمجرّد حدوثه. وإن عنفاً كهذا إنما يقسّم، لأنه يشير إلى “أعداء”، مقبول أن يكونوا ضحايا. لكنه عنفٌ يجمع أيضاً كل أولئك الذين يجدون أن ممارسة العنف ضد من يعتبرون “الأعداء” أمر شرعي، والذين هم متوافقون عليه. لذلك هناك وظيفة واضحة للعنف السياسي، فهي أسلوب لتكوين الجماعات التي تقسم المجتمع إلى معسكرين: الأول الذين هم “أصدقاء”، أي الشعب والمواطنون الصالحون، والثاني الذين هم “أعداء”، أي الخونة أو الإرهابيون أو أفراد أقلية ما. ولكي ينجح العنف في إنجاز أهدافه، ويُخلي مكاناً لمؤسّسة مستقرّة في الدولة، ينبغي إبعاد “الأعداء” عن الجماعة، وطردهم إلى الخارج، حيث يبقون مهيئين بوصفهم “أعداء” أن يكونوا ضحايا من جديد. وينبغي لمناوأة “العدو” أن تولّد تضامناً، وتؤسّس علاقات تعاون ودعم بين “الأصدقاء”، لأن التضامن والعداء هما وجها الواقع نفسه، وكلا منهما شرط للآخر. للتخلص من الأعداء، يجب معرفة هؤلاء الموجودين في المجتمع، وهم معادون له، وليسوا جزءاً منه.

العنف السياسي من أخطر تجليات العنف في المجتمعات البشرية، وهناك ضرورة ملحة لإعادة التفكير فيه

وحسب دوموشيل، مشكلة التعرف إلى أولئك الذين “يستبعدون أنفسهم بأنفسهم” وجدت حلها: إنهم الذين لا يشاركون في القيَم نفسها التي نتشارك فيها. وهذا ما تشهد عليه بعض العلامات الخارجية، التي جرى اختيارها تعسّفاً دلالة على أمر المشاركة في القيمة المعنية، أو عدم المشاركة فيها. تلك العلامات يمكن أن تكون، على سبيل المثال، الدين، أو اللغة، أو حتى طريقة اللباس. من المفترض أن تلك العلامات تشير إلى أن الذين يظهرونها ليسوا فقط لا يشاركون في القيم التي نتشارك فيها، وإنما هم لا يستطيعون المشاركة فيها مستقبلاً.

يصبح “العنف السياسي” أقوى عندما تختلط النزاعات الشخصية مع الخصومة السياسية، حين يستغل الأفراد النزاعات السياسية من أجل مصالحهم الخاصة، إنهم يستخدمون محترفي العنف من أجل حل خلافاتهم الخاصة، فهم يشون بأعدائهم إلى العصابات المسلحة أو إلى العسكريين، ويتهمون منافسيهم بإخفاء السلاح أو بتقديم الطعام إلى المتمرّدين، وهذا ما جرى ويجري في كل حرب أهلية أو صراع داخلي على السلطة. ويسعى هؤلاء إلى توسيع مغانمهم إلى أقصى حد، مستخدمين عنف الآخرين لغاياتهم الخاصة، الذي يوجهونه نحو أعدائهم.

يشير دوموشيل إلى نتائج تحقيق كاليفاس عن الحروب الأهلية، الذي وصل إلى أن أكثر من نصف الوشايات شيطاني، وأن قسماً كبيراً من الوشايات السياسية المحضة تحرّكها نزاعات بين الأشخاص، لا أسباب أيديولوجية. وكما يحدُث في الحروب الأهلية، استغلّ أفراد المجتمع في ألمانيا النازية الخصومة السياسية من أجل منفعتهم الخاصة، وبعملهم هذا زادوا من عنف تلك الخصومة. وتفيد وثائق الغستابو، التي بقيت بعد الهزيمة، بأن “الغستابو” اعتقل كل من ارتكبوا جرائم سياسية بسبب وشايات، وليس بسبب عمل تحرٍ، أنجزه رجال الشرطة بأنفسهم. وكما ذكر سابقا، العنف السياسي يحشد ويجمع، ويؤسّس الجماعات. يوحّد ويقسّم في آن. وهذا ما يؤسّس لعقلانية تعالج المشكلة، بحيث تقوم على وجود ضابط للعنف، ذلك الوجود الذي يعيد المرّة بعد المرّة إبعاد الجماعات إلى خارج نطاق الدولة، إن هذا الاتجاه لا يكلّل دائماً بالنجاح الكامل، إذ تنزع الجماعات والنزاعات دائما إلى الظهور من جديد.

يصبح “العنف السياسي” أقوى عندما تختلط النزاعات الشخصية مع الخصومة السياسية، حين يستغل الأفراد النزاعات السياسة من أجل مصالحهم الخاصة

كأن دوموشيل يشرح أوضاعاً رأيناها ونراها في الصراعات المشتعلة، وهو ما يؤكد أن الفكر السياسي في العالم ما زال يقوم على الثنائية الإلغائية، مستخدماً العنف السياسي في استئصال الأعداء، كما نراها عند الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالتحقير المستمر والالغائي لمنافسيه السياسيين. … وفي الحالة الاستبدادية، يكون الإلغاء باستخدام العنف العاري في إبادة “العدو”، وهذا لا يمكن أن يحصل من دون مشاركة جزء كبير من السكان في جرائم ضد الإنسانية. وهي الجرائم التي يستهدف فيها القتلة، جماعات أخرى من البشر تشاركهم الوطن. بذلك، الجماعات المنظّمة هي التي ترتكب الجرائم ضد الإنسانية بإبادة جماعات بشرية أخرى.

يضيء سلافوي جيجيك في كتابه “العنف، تأملات في وجوهه الستة” جانباً مهمّاً للمسألة، معتبراً أن المصدر العميق للبربرية هو الثقافة بالذات، هو تماهي المرء المباشر مع ثقافة خاصة تجعله متعصّباً لا يطيق الثقافات الأخرى. والتعارض الأساس هنا هو التعارض القائم بين الجماعة والفرد: الثقافة تحديداً جماعية خاصة، وفئوية ضيقة وإقصائية، بالنسبة إلى الثقافات الأخرى، في حين أن الفرد هو الكوني الشامل، موقع الكونية الشاملة، بمقدار ما ينتشل نفسه ويرفعها إلى ما فوق ثقافته الخاصة. حسب تعبير جيجيك.

المصدر:العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى