
يعود الفضل الأصلي إلى فريد المذهان، واسمه الحركي قيصر. هو رقيب أول في الشرطة العسكرية السورية في عهد بشار الأسد. خاطرَ بحياته منذ 11 عاماً، عندما قرّر تصوير آثار التعذيب الشامل الذي كانت تمارسه هذه الشرطة بحق السجناء السياسيين. عامين؛ منذ انطلاق الثورة وحتى هروبه من سورية عام 2013، محمّلاً بخمسة وخمسين ألف صورة صحيحة غير مفلْترة، لسجناء قضوا رمياً بالرصاص أو تحت التعذيب في مراكز الاحتجاز التابعة للمخابرات السرّية. ضحايا يُعرفون بالأرقام، يحملون في أجسامهم آثار هذا التعذيب من تشوّهات، وجروح، ونزيف، وهزال، ونزيف، وبتر أعضاء، وحتى رصاص.
بعد ذلك بستة أعوام، أصدر الكونغرس الأميركي “قانون حماية المدنيين في سوريا”، المعروف بقانون قيصر. ولم يدخل هذا القانون حيز التنفيذ إلا بعد عام من صدوره، أي إننا لا نعرف كم من آلاف الضحايا سقطوا خلال تلك السنوات الفاصلة بين هروب قيصر وسقوط بشار.
وكان الغرض من هذا القانون العقابي اقتصادياً ومالياً، بلسان الكونغرس: “إرغام السلطة الحاكمة في دمشق على التوقف عن الانتهاكات الجماعية لحقوق الإنسان، وقبول انتقال سياسي يحترم دولة القانون وحقوق المدنيين”. تتضمّن هذه العقوبات: تجميد الأصول، ومنع التعامل بالدولار، ومحظورات قطاعية (نفط، بناء، تكنولوجيا)، ومنعاً من السفر. وهي تستهدف “شخصيات النظام”، من بشار الأسد، الى زوجته أسماء، إلى رامي مخلوف، ونذيز جمال الدين، ونادر القلعي، وخالد الزبيدي، وغيرهم. كذلك المؤسسات العامة، مثل المصارف وغيرها، من شبكات الكهرباء والماء والبريد.. إلخ، وكل شركة أو كيان غير سوري تعامل معها، فضلاً عن “مؤسّسات خاصة” يديرها مستثمرون تابعون للنظام (القطان، مروج الشام، شركة آدام وإنترسيكشن)، ناهيك عن “شخصيات” أخرى تتمتع بالمزايا نفسها… ولا مجال هنا لتعدادها، ولكنها تبدو للعين المجرّدة شبكية، متعدّدة الوظائف، ومعروفة بصلتها العميقة ببشار وأخيه ماهر، وتقاسمها الغنائم معهما.
أفقرت العقوبات الشعب السوري. وبنتيجتها، انخفضت العملة السورية، ومعها الاستثمارات، خصوصاً المنتجة منها
الآن هل حقّقت عقوبات قيصر مرماها بردع بشار أو بإفقاره؟ كلا. من وقت صدورها وحتى سقوطه، بقي بشار على منهجه، ولم يتنوّع أسلوبه، نظراً إلى الستاتيكو الذي بلغته سورية بعد أولى سنوات الجمر، من انقسام ومناطق نفوذ وتهجير.
أما اقتصادياً، فإن العقوبات أفقرت الشعب السوري. بنتيجتها، انخفضت العملة السورية، ومعها الاستثمارات، خصوصاً المنتجة منها، فانعكس ذلك على الأسعار والعمل والإيرادات، واستحالت إعادة الإعمار وبناء البنى التحتية واستيراد المواد الحيوية والتجهيزات الطبية، فانتشر الفقر على نطاق واسع وسط الشعب السوري.
عكس “شخصيات النظام” من رجال أعمال “كبار” ومخابرات: لم يفقروا، إنما زادت ثرواتهم، فهذه الثروات بالأساس مخفية ومحمية، مهربة إلى الخارج. موضوعة في شركات وهمية صورية، يملكها وسطاء، ومسجلة في أمكنة لا يسري عليها القانون. فيما العقوبات تستهدف الأصول المعروفة أو المعلنة. وما ساعد على هذا الإثراء أن العقوبات سمحت بخروج المنافسين الاقتصاديين لتلك “الشخصيات”. وزادت قيودها على الاقتصاد، واشتعل التهريب، وتصريف الدولار خارج الإطار المصرفي.
النتيجة: ازدهار اقتصاد الحرب، والاحتكار، وتوسع السوق السوداء، وتحكم “الشخصيات” بالعملة الصعبة، فكان أكبر الرابحين من العقوبات هم الشخصيات نفسها، وفي مقدّمتهم بشار وأخوه، وأكبر الخاسرين هم الشعب السوري. وهذا أمر مكرَّر وقديم، شاهدناه قبل أكثر من 35 عاماً في العراق؛ فبعد الاجتياح العراقي الكويت عام 1990، دفع جورج بوش الأب، الأمم المتحدة إلى اعتماد قرار مجلس الأمن 661، القاضي بفرض عقوبات على العراق، بما يشبه عقوبات قيصر، زائد فرض الحظر على تصدير نفطه الوافر. دول الغرب الكبرى وقتها أيّدت العقوبات، ومعها السعودية والكويت، وجميعهم “احترم” تطبيقها. ونادراً ما يطبق قرار صادر عن الأمم المتحدة، خصوصاً ما يتعلق منه بالشرق الأوسط.
فشل الأميركيون في غالبية العقوبات التي فرضوها على بقع من العالم
كما في سورية كذلك في العراق، أفقرت العقوبات الشعب العراقي؛ فانخفض الناتج المحلي الإجمالي ومعه العملة الوطنية، وارتفعت نسبة التضخم، وتراجعت الخدمات العامة، وانتشرت ظاهرة تجويع الأطفال وموتهم، وتدهور تعليمهم ومستوى حياة آبائهم. فقر ونقص حاد بالدواء ودمار البنى التحتية. وفي السنوات الأربع الأولى لهذه العقوبات، توفي مئات الآلاف من العراقيين، وبقي صدّام حسين يعيث خراباً، انهار اقتصاد العراق، ولكن قبضته على موارد البلاد ازدادت، من نفط وعملة صعبة واستيراد، و”شخصياته” صارت تحتكر تجارة السلع الحيوية التي أصبحت نادرة، ولا تستثمر إلا في مشاريعه الخاصة، تركب السيارات الفارهة، وتعمّر القصور النادرة، وتستورد أغلى البضائع الفاخرة. ولم تنتهِ العقوبات ضد العراق إلا بعد الغزو الأميركي له عام 2003.
يحصل الأمر نفسه في لبنان. لم يشعر بالعقوبات الأميركية أحد. موجهة ضد “شخصيات” حُسبت فاسدة مؤيدة أو موالية لحزب الله، وكأنها وحدها الفاسدة، وكأنها هي وحدها المستفيدة من حزب الله أو الغافلة عنه. العقوبة عُرفت باسم “قانون ماغنيتسكي”، طالت نبيه برّي، وجبران باسيل، وعلي حسن خليل، ويوسف فنيانوس، وحسان دياب، وغيرهم من الأقل شهرة، لكن أهمهم مهندس انهيار الاقتصاد اللبناني رياض سلام، الذي نالته العقوبة قبل عامين، بتهمة أقل بكثير مما ارتكبه. لماذا مهم؟ لأنه الوحيد الذي دخل بسببها إلى سجن “ذهبي”، وخرج منه متَبرِّئاً من حزب الله. والأهم أنه دفع كفالة خروجه، بمبلغ سرقه من اللبنانيين بفضل “هنْدساته” المالية: 14 مليون دولار وخمسة مليارات ليرة لبنانية.
يسمح الكونغرس بالعودة عن إلغاء العقوبات، بل بفرض عقوبات جديدة إذا لم تستجب الحكومة السورية للمطالب الأميركية
كما في سورية والعراق، على اختلاف الأشكال، كذلك في لبنان. رياض سلامة أفقرَ اللبنانيين هو وصحبه، واستطاع أن يشتري حريته بأموالهم، وهذا يعني أن العقوبات عليه وعلى صحبه فشلت في هدفها المعلن، أي معاقبة الفاسدين. والنتيجة اطمئنان “الشخصيات” الفاسدة على أموالها، بل زيادتها، وإفقار اللبنانيين الشامل، فهجرة شبابه بالجملة بحثاً عن لقمة العيش.
فشل الأميركيون في غالبية العقوبات التي فرضوها على بقع من العالم. ضد كوبا، وكوريا الشمالية، وروسيا، والصين. ونجحوا جزئياً في إيران (اتفاق نووي)، وليبيا القذافي (اتفاق نووي أيضاً)، وصربيا. ونجحوا كلياً مع جنوب أفريقيا، ولكن هذه الأخيرة كانت أصلاً مهيأة داخلياً وعالمياً لإلغاء نظام الفصل العنصري.
يتساءل المرء. هل أميركا غبية إلى هذه الدرجة، لا تتعلم من دروسها؟ أم أن الذكاء يخون الأقوياء، عكس ما نتصوّر؟. … ربما هذا الهوى العقابي، ليس دليل غباء، إنما دليل استغباء واستقواء.
خذْ آخر الكلام: إلغاء قانون قيصر بحق سورية أُلحِق بطلبات من الكونغرس تلزمه بالمراجعة كل 180 يوماً، لمدة أربع سنوات، أي إنه وضع شروطاً قبل إقرار عقوبات أخرى، وهي: مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، إبعاد المقاتلين الأجانب، حماية الأقليات العرقية والدينية، مكافحة غسل الأموال، ملاحقة منتهكي حقوق الإنسان، وقف تهريب الكبتاغون، والشرط الأهم، بنصه الحرفي: “ولا تتخذ (سورية) أي إجراءات عسكرية أحادية الجانب وغير مبرّرة ضد جيرانها، بما في ذلك إسرائيل”. يعني أن الكونغرس يسمح بالعودة عن إلغاء العقوبات، بل بفرض عقوبات جديدة إذا لم تستجب الحكومة السورية لهذه الطلبات الآنفة. والأرجح أن هذا البند حجر الزاوية الذي يرتئيه ترامب لبناء شرق أوسط جديد يسوده “السلام الخالد”.
المصدر: العربي الجديد






