
استُدعي مؤسس حزب “فرنسا الأبية”، جان لوك ميلانشون، قبل أسبوعين، إلى جلسة مساءلة برلمانية غير عادية داخل الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان الفرنسي). لكن، ما كان يمكن اعتباره، ظاهرياً، جلسة نقاش سياسي روتينية، كان في الحقيقة محاكمة سياسية مكتملة الأركان، أُعدّت أدواتها سلفاً، وحُدّدت أهدافها مسبقاً، ونُصبت فيها المقصلة الرمزية قبل أن يجلس “المتهم” داخل قفص الاتهام أمام فصيل الإعدام من سياسيين من اليمين والوسط، بل حتى من اليسار. عنوان الجلسة واسم اللجنة بدوا تقنيين ومحايدين: “الروابط بين الحركات الإسلاموية والأحزاب السياسية”، لكنها في عمقها لم تكن سوى محكمة سياسية فعلية صُمّمت خصيصاً لمحاكمة حركة فرنسا الأبية وزعيمها، في توقيت بالغ الدلالة، قبيل الانتخابات البلدية لسنة 2026، وفي مناخ سياسي فرنسي يبحث فيه اليمين، ومعه قطاعاتٌ من الوسط، حتى داخل صفوف اليسار، عن “عدو داخلي” جديد يعيد ترتيب الصفوف ويمنح الخطاب الأمني والهوياتي نفساً انتخابيّاً جديداً. كان السيناريو واضح المعالم: تحويل مواقف ميلانشون من الإسلاموفوبيا، ومن فلسطين، خصوصاً من الحرب على غزّة، ومن المهاجرين، إلى أدلة اتهام، وتصويره باعتباره “حصان طروادة” للإسلام السياسي، يتسلّل عبره “الخطر الخارجي” الذي يستهدف تخريب قيم الجمهورية الفرنسية من الداخل.
ما لم يحسب له مهندسو هذه المحاكمة أنهم استدعوا إلى القاعة سياسيّاً من طراز نادر، سياسيّاً من زمن لم تعد الديمقراطيات المعاصرة تُنتج أمثاله إلا استثناءً: خطيباً مفوّهاً، محاجِجاً شرساً، ومبارزاً فكريّاً، ومثقفاً عضويّاً بالمعنى الغرامشي للكلمة، يرى في السياسة امتداداً للفكر والتاريخ والأخلاق. منذ اللحظة الأولى، كان واضحاً أن الأسئلة المطروحة لا تبحث عن الحقيقة بقدر ما تسعى إلى تثبيت إدانة جاهزة، أسئلة أقرب إلى محاضر الشرطة منها إلى مساءلة برلمانية: كيف تفسّر وجود أحد نواب “فرنسا الأبية” على بعد كيلومترين من معبر رفح قبل أحداث 7 أكتوبر (2023) بيومين؟ لماذا لم تُدن مشاركة النائبة ريما حسن في مظاهرة في الأردن رُفعت فيها صور يحيى السنوار؟ كيف تفسّر مشاركة أعضاء من حزبك في مسيرات رُفعت فيها شعارات اعتُبرت معادية للسامية؟ … أسئلة تُراكم إيحاءات الإدانة بدل بسط الوقائع لفهم ما جرى، وتخلط عمداً بين التضامن السياسي المبدئي والتواطؤ المُبيّت الذي يُفتّش في النيات وبين حرية التظاهر والحق في الاختلاف، وبين نقد دولة عنصرية وسياسات حكومتها الإجرامية ومعاداة اليهود على أنهم جماعة دينية. وهو خلط يعكس تفاهةً ليست فقط في مضمون الأسئلة، التي لا تنم عن جهل بريء، بل في منطقها الاختزالي الذي يرى في كل موقف خارج الإجماع الرسمي اليميني خطراً أمنيّاً، وفي كل خطاب نقدي تهديداً للجمهورية وقيمها كما يتمثلها اليمين المتطرّف.
انتقل ميلانشون إلى تفكيك مفهوم العلمانية، لا كما يُستعمل اليوم في الخطاب الشعبوي، بل كما نشأ تاريخيّاً في سياق الصراع من أجل حرية المعتقد
كان أمام ميلانشون خياران لا ثالث لهما: الغضب والانتفاض، وهو أسلوبٌ يتقنه ويعرف كيف يوظفه، أو الهدوء الواثق المسلح بالمعرفة والتاريخ والمنطق، فاختار الثاني. ومن تلك اللحظة تحديداً بدأت المحاكمة تنقلب على أصحابها. لم يكتفِ الرجل بالدفاع عن نفسه، بل فكّك الأسئلة ذاتها، ونقل النقاش، زهاء ساعتين تقريباً، بلا كلل ولا ملل وبالقوة نفسها وبتدفق الأفكار نفسه، من مستوى الاتهام إلى مستوى المعنى الفلسفي للمفاهيم والأفكار، ومن منطق الشبهة إلى منطق الفكرة القائمة على الحجة والإقناع. وحين وُجه إليه سؤال الإدانة صراحة وببجاحة: هل تحولت “فرنسا الأبية” إلى حصان طروادة للإسلاميين؟ لم يكتفِ بنفي التهمة فقط، بل أعاد تعريف الإطار الفكري والسياسي لحركته، موضحاً أن مشروعها يقوم على إنسانية جذرية ترى في الإنسان فاعلاً حرّاً ومسؤولاً عن أفعاله، وهو مبدأ، في نظره، يشكل نقطة التقاء طبيعية بين المؤمن وغير المؤمن، لأن الديانات نفسها، حين تعترف بحرّية الإرادة، تجعل الإنسان مسؤولاً أخلاقيّاً عن اختياراته، لا تابعاً لقوة غيبية أو سلطة سياسية.
من هذا المنطلق، انتقل ميلانشون إلى تفكيك مفهوم العلمانية، لا كما يُستعمل اليوم في الخطاب الشعبوي، بل كما نشأ تاريخيّاً في سياق الصراع من أجل حرية المعتقد. العلمانية، يقول لمستمعيه، لم تولد لمحاربة الدين أو لإقصائه من المجال العام، بل لضمان حياد الدولة وحماية حرية الضمير. الدولة وحدها هي التي يجب أن تكون علمانية، يصرُخ في وجوههم بقوة، أما المجتمع فمتعدد بطبيعته، والناس أحرار في الإيمان أو عدمه، وفي أنماط عيشهم ولباسهم. وعندما حاول خصومه جرّه إلى الجدل التقليدي حول الحجاب، فجّر مفارقة أربكت القاعة وأظهرت هشاشة الخطاب الاتهامي، حين تساءل: لماذا يتحوّل لباس امرأة إلى قضية وطنية كبرى، بينما لا يجرؤ أحد على مساءلة ممارسات أخرى، مثل الختان، التي يقوم بها، على حد سواء، فرنسيون متدينون تابعون لديانتين إبراهيميتين، كما يقوم بها مواطنون غير متدينين؟ قبل أن يضيف: هناك من يعتبر الختان فعلاً دينيّاً، ومن يراه خياراً صحّياً، ومن يعتبره عنفاً ضد الأطفال، ومع ذلك لا يتحوّل إلى هستيريا سياسية ولا يُستدعى لتخويف المجتمع. ثم ختم هذا التفكيك بسؤال هادئ، لكنه صادم وقاطع: “لا أملك جواباً نهائيّاً عن هذه المفارقة، إن كانت لديكم أجوبة مقنعة فمرحباً”.
في تلك اللحظة، لم يعد ميلانشون في موقع المتهم، بل في موقع الأستاذ الذي يُلقي درساً أكاديميّاً في الفكر والسياسة والتاريخ، بينما بدا أعضاء اللجنة، الذين كان بعضهم يقرأ أسئلة صيغت في غرف مغلقة، موظفين سياسيين بلا عمق نظري. وبلغ المشهد ذروته حين استدعى ميلانشون ابن رشد، لا بوصفه مفكراً إسلاميّاً سبق عصر الأنوار في أوروبا، بل لكونه فيلسوفاً أسس لفكرة مركزية مفادها بأن الحقيقة المطلقة واحدة وموحّدة المصدر، لكنها تُدرَك عبر طرق متعددة، منها الفلسفة والبلاغة والإيمان. بهذا الاستحضار، لم يكن ميلانشون يدافع عن نفسه فحسب، بل كان يضع خصومه أمام تناقضهم العميق: كيف يمكن لجمهوريةٍ تدّعي الانتساب إلى الأنوار أن تخاف من التعدّد، وأن ترى في الاختلاف خطراً يجب محاصرته بدل اعتباره ثراءً فكرياً وروحيّاً؟ وازدادت مفارقة المشهد حين غاب صاحب المحاكمة السياسية عن الجلسة، زعيم اليمين الجمهوري الذي كان وراء تأسيس لجنة التحقيق، مفضلاً الهروب على المواجهة، فكانت الصورة فاضحة: من يتهم غيره بتخريب الديمقراطية يعجز عن الحضور للدفاع عنها وجهاً لوجه أمام من يعتبرُه عدوها.
ليس ميلانشون زعيماً حزبيّاً بالمعنى التقليدي، ولا مجرّد قائد لتيار يساري راديكالي. هو سياسي من طراز نادر يرى في السياسة صراعاً حول الأفكار والقيم قبل أن تكون تدبيراً تقنيّاً
لم يكن ما جرى داخل البرلمان الفرنسي حادثاً معزولاً، بل لحظة كاشفة لطبيعة ميلانشون نفسه، بوصفه “الحيوان السياسي” الوحيد، والأخير، في فرنسا اليوم، لا بمعنى الدهاء فقط، بل بالمعنى الفلسفي النبيل للكلمة الذي يعني الاكتمال السياسي والفكري. يجر وراءه مساراً طويلاً من الصدامات والقطيعات، من التروتسكية إلى الحزب الاشتراكي، ثم القطيعة الكبرى سنة 2008 مع رفاقه الاشتراكيين القدامى، وبناء فضاء سياسي جديد خارج الأطر التقليدية، ما يؤكّد أن الرجل لم يكن يوماً باحثاً عن موقع مريح داخل النظام، بل عن موقع يسمح له بمواجهته وكشف تناقضاته.
ليس ميلانشون زعيماً حزبيّاً بالمعنى التقليدي، ولا مجرّد قائد لتيار يساري راديكالي. هو سياسي من طراز نادر يرى في السياسة صراعاً حول الأفكار والقيم قبل أن تكون تدبيراً تقنيّاً. يتقدّم إلى المواجهة بوجه مكشوف، وبكلمات حادّة، وبقناعة راسخة. لا يكتفي بانتقاد السياسات، بل يعرّي البنى الذهنية التي تقوم عليها: النفاق في الحديث عن قيم الجمهورية، والازدواجية في مفهوم العلمانية، والصمت المريب أمام جرائم الإبادة في غزّة التي ارتُكبت باسم الدفاع عن “قيم غربية” فقدت بوصلتها. تجمع خطاباته بين الأدب والتاريخ وسعة الثقافة والدهاء السياسي والغضب الأخلاقي. لهذا يثير الانقسام إلى حد العداء له، لكنه في المقابل يُلهم قاعدة واسعة ترى فيه آخر من يتكلم لغة مفهومة في زمن لغة التواصل السياسي الخشبية ولغة الأرقام التكنوقراطية. يُحبّه أنصاره حد التقديس، ويكرهه خصومه حد الهوس. قد يُبالغ أحياناً في انتقاداته، ويُرهق حلفاءه بحدة مواقفه، ويغلق أبواب التحالف معه بأسلوبه العمودي، لكنه، رغم ذلك، حقق ما عجز عنه غيره في اليسار الفرنسي منذ عقود، فأعاد اليسار الاحتجاجي إلى قلب المعادلة السياسية، واقترب فعليّاً من الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية مرّتين متتاليتين، وخسر السباق بفارق بسيط فقط عندما تكالبت ضده كل الطبقة التقليدية الفرنسية. لكن الأهم أنه أعاد للسياسة بُعدها الأخلاقي وعمقها الفكري.
حقق ميلانشون ما عجز عنه غيره في اليسار الفرنسي منذ عقود، فأعاد اليسار الاحتجاجي إلى قلب المعادلة السياسية
في لحظة تاريخية تتسم بضمور الخيال السياسي والإرهاق الديمقراطي، وتحوّل الفعل العمومي إلى إدارة تقنية باردة، لا يوجد اليوم في فرنسا سياسيٌّ يمتلك هذه القدرة التي يمتلكها ميلانشون على تحويل كل ظهورٍ إلى حدث، وكل مواجهة إلى مشهد، وكل هجوم عليه إلى فرصة للهجوم المضاد. لا يختبئ، لا يهادن، ولا يطلب الإذن ليقول ما يعتقده صواباً. حين دعم فلسطين، لم يفعل ذلك بلغة ملتبسة أو حسابية، بل سمّى الأشياء بأسمائها: حرب إبادة، احتلال، تواطؤ غربي. قال ما يخشاه غيره، ودفع ثمن ذلك حملات تشهير، واتهامات جاهزة بـ “معاداة السامية”، ومضايقات بوليسية وصلت إلى حد تفتيش منزله، ومحاولات اغتيال حقيقية أو محتملة، وفي كل مرّة كان يخرج من معاركه أصلب وأكثر حضوراً.
في سن الثالثة والسبعين، يبرز ابن مدينة طنجة المغربية استثناءً صاخباً، أو ناجياً من زمن لم يعد موجوداً، بل ظاهرة سياسية وفكرية قائمة بذاتها، ليس لأنه معصوم من الخطأ، بل لأنه يذكّر، بعناد وصوت مرتفع، بأن الديمقراطية لا تموت بالصخب والاختلاف، بل بالصمت والخوف من المواجهة. خطاباتُه مزيج نادر من الأدب والغضب والتاريخ، يستحضر جان جوريس كما يستحضر فيكتور هوغو. يحضُر بقوة حين يتكلم، وبقوة أكبر حين يُمنع أو يُحاصَر أو يُستهدف أو يُحاكم، ما جعله الشخصية الأكثر استقطاباً في فرنسا المعاصرة: إما أن تحبّه أو تكرهه، لكن لا يمكنك تجاهله. حضوره القوي لا يُقاس فقط بالأرقام الجامدة التي تعكسها استطلاعات الرأي، بل بقدرته على إعادة تعريف السياسة في جوهرها، بوصفها ليست مهنة لإدارة الواقع، بل معركة مستمرّة حول الحقيقة والقيم التي تقوم عليها حياة الإنسان.
المصدر: العربي الجديد






