
تتواصل في تونس مسيراتٌ احتجاجية على الوضعية السياسية والحقوقية التي تردّت إليها البلاد، وتنتظم للمرّة الرابعة تقريباً في أقلّ من شهر. يختار المنظّمون عادة أيام السبت ليخرج المُحتجّون، وهم في اليوم الأول من يومَي عطلتهم الأسبوعية، من أجل التعبير عن غضبهم من الموجات المتلاحقة من الأحكام الصادرة بحقّ طيفٍ واسعٍ من الإعلاميين والسياسيين والحقوقيين. القاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً انخراطهم بأشكال مختلفة في عمل سياسي ومدني من أجل وضع حدّ لزحف الشعبوية السياسية التسلطية، والتهامها مربّعات الحرية الأخيرة التي ظلّت صامدة.
تداعى هذه المرّة مختلف الفرقاء إلى مسيرة “ولا بدّ للقيد أن ينكسر”، وبشكل خاص، الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، وهي من الجمعيات التي لم تُجمَّد بعد بصورة مباشرة، رغم أنها مثل غيرها لم تنجُ من القصف الإعلامي ومختلف أشكال التحرّش باعتبارها جمعية مموّلة من الخارج، منخرطة في ما يسمّيه أنصار النظام الاستقواء بالخارج… إلخ.
تدرّبٌ المسيرات على إعادة تملّك الفضاء العام في ظلّ حرص النظام على احتكاره، وإن بشكل ناعم
استطاعت المسيرة، وشعارها من عجز لبيت شهير للشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي الذي عُرف بقصيدة “إرادة الحياة”: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة/ فلا بدّ أن يستجيب القدر/ ولا بدّ لليل أن ينجلي/ ولا بدّ للقيد أن ينكسر”، وأُدرج البيت الأول في النشيد الوطني التونسي. جمعت هذه المسيرة نشطاء من مختلف التوجّهات السياسية، علاوة على عدة جمعيات على غرار الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وجمعيات حقوقية أخرى، جلّ أعضائها في السجون من أجل تهم تدور حول مساعدة اللاجئين والمهاجرين… إلخ.
تحتفي هذه المسيرات المتتالية ضمنياً باقتراب الذكرى الخامسة عشرة للثورة التونسية. ففي مثل هذا الشهر (ديسمبر/ كانون الأول) اندلعت أحداث تلك الثورة الخاطفة التي دامت شهراً كان كفيلاً بإسقاط نظام ديكتاتوري جثم على صدور الناس ما يناهز ثلاثة عقود، وربّما يستعيد أيضاً الذين لبّوا دعوة الرابطة التونسية لحقوق الإنسان تلك المناخات المُنعِشة التي جرت فيها أحداث الثورة التونسية، معلنة بدء “الربيع العربي”، بكل عنفوانه وإخفاقاته. وقد يكون أيضاً من نيات هذه المسيرات استغلال ذاكرة الاحتجاج من أجل محاولة الحدّ من إيقاف زحف السلطة على آخر مربّعات الحرية، بعد توالي صدور أحكام ثقيلة تجاوزت النصف قرن، سلّطها القضاء على سياسيين ونشطاء حقوقيين وإعلاميين عديدين. تتالى مسيرات الشهرَيْن الأخيرَيْن من هذه السنة التي أوشكت أن تنقضي في سياقات استثنائية، تشهد فيها المحاكم التونسية أكثر من خمسين محاكمة تُعقد خلال الشهرَيْن الحاليَّيْن، وهو عدد يكاد يكون قياسياً ومن دون سابقة؛ إذ لم تشهده البلاد، حتى في أحلك فترات الديكتاتورية، سواء مع زين العابدين بن علي، أو مع الحبيب بورقيبة، وهما الفترتان اللتان شهدتا محاكماتٍ سياسية شملت مختلف العائلات السياسية: يساريين، قوميين، إسلاميين، علاوة على النقابيين.
تشهد هذه المسيرات تدرّباً على إعادة تملّك الفضاء العام، خصوصاً في ظلّ حرص النظام على احتكاره، وإن بشكل ناعم: تخوين المحتجّين ووصمهم، ما يجعل تلبية دعوتهم أو حتى مجرّد التعاطف معهم ضرباً من “افتقاد الوطنية”. من شأن هذا التدرب الأسبوعي على “احتلال” الشارع، ولو إلى حين، أن يرفع منسوب الجرأة في ابتكار الشعارات وصياغة مطالب حتى لا يقنط الجميع. يقول المشاركون إنهم سيواصلون النزول في هذه المسيرات حتى ولو كان العدد دون المأمول. ليست لهؤلاء خيارات عديدة سوى النزول إلى الشارع والتظاهر، خصوصاً في ظلّ انغلاق الفضاء العمومي: من نوادٍ وجمعيات وإعلام. لم يدخل إلى مبنى التلفزيون العمومي (على سبيل المثال)، منذ يوم 25 يوليو/ تموز 2021، أي معارض تونسي، فضلاً عن اختفاء جلِّ البرامج السياسية من الإذاعات والقنوات التلفزية العمومية والخاصّة، التي تحوّلت مساحاتُ البثّ الكبرى فيها تسويقاً لأواني الطبخ.
غياب الإسلاميين من المسيرات يكشف انقسامات الفرقاء وغياب التقارب أو الحوار
ومع هذه الأهداف الضمنية كلّها، لا يمكن إغفال جملة من الملاحظات، وهي أن المسيرات المتتالية لم تشهد توسّعاً في استقطاب الناس، بل ظلّت الأعداد تقريباً ثابتة أو تتقلّص نسبياً، خصوصاً في ظلّ حالة الاستنزاف التي قد تكون بدأت تظهر، فالشارع التونسي لم يتعوّد على النزول أسبوعيّاً، وربّما يستحضر الناس الحراك الجزائري أو اللبناني، وهي حالات ذروة تستقطب الجماهير. غير أن الوضع التونسي الذي يشهد انحساراً في موجات الاحتجاج، خوفاً أو يأساً، يختلف عن تلك الحالات كلّها.
كما أن هناك انقسامات بين مختلف الفرقاء السياسيين، وغياب أي من أشكال التقارب أو حتى الحوار، فقد لوحظ مثلاً غياب الإسلاميين من مسيرة “ولا بدّ للقيد أن ينكسر”، تعبيراً عن غضبهم من مواقف الرابطة التي، بحسب اعتقادهم، تكيل بمكيالَيْن في مواقفها. ومع ذلك، يعتقد بعضهم أن مجرّد خروج المتظاهرين في المسيرة نفسها، ورفع صور مختلفة لمساجين ينتمون إلى التيارات السياسية المتنافسة والمتصارعة: إسلاميين، تجمّعيين ويساريين، مكسب واعد سيؤدّي إلى إذابة الجليد بين مختلف الفرقاء، على أمل أن تؤدّي وحدة الساحات إلى وحدة الإرادات لاحقاً.
المصدر: العربي الجديد






