
لو عَرّفتُ مفهومَ “القوى الاستثنائية”، في معارك النضال التحرّري ضد الوجود الأجنبي، استعمارياً كان أم غير استعماري، في تعارض مع مفهوم آخر أدعوه “القوى الرئيسية”، في نفس المعارك والاتجاه والسياق، لاسْتَقَرَّ تعريفي على ثلاثة مستويات تهمني أكثر من غيرها، أي التاريخي والسياسي والكفاحي، سأصوغ محتواها صياغة شاملة بالإشارة إلى أن التطور الزمني والتاريخي في مجراه العام بحكم التحوّلات التي تطرأ عليه، يصيب تلك القوى، لأسباب مختلفة ذاتية وموضوعية، بالتقادم والجمود الناتج عن تخلف الوعي الذاتي والجمود العقائدي وتهاوي الأحلام المقدرة لإحداث التغيير المنشود، وهو الذي، بناء عليه، يحدّد طبيعتها الخاصة في ظرفية معينة ويجعلها، انطلاقاً من تناقضات وتبريرات ذاتية، بوصفها التعبير المُركّز عن شقاوة الوعي المذكور، في تعارض واضح مع الاختيارات التي اعتمدتها لبلوغ أهدافها وتحقيق مطامحها. ومن المعروف تاريخياً أن تلك القوى بمجرّد ما إن “تستقر” أوضاعها، وهو استقرار موهوم، حتى تصاب، بناء على نتائج العمل الذي خاضته، والسيرورة التي تطورت فيها، والتفكير المطلق الذي يتشكل في أفق عقيدتها واستراتيجيّتها، فضلاً عن الجدلية المتوترة المتفاعلة الموجودة في كل سيرورة نضالية، بالعقم الذي يُدْرَك من خلال الجمود واليأس اللذين يحبطان الوجود، أو يجعلانه محجوزاً لا صلاحية له بالمرة، إما بسبب التغيرات الشاملة التي لا تستطيع تلك “القوى الاستثنائية” الفعل فيها أو مصاحبتها، وإما بفعل الإكراهات العامة التي يمكن أن تعترض عملها وتحول بينها وبين أهدافها، وإما بسبب التناقضات الخاصة المدمرة التي تكسر بنيانها وَتَفُتُّ في عضدها التنظيمي، فيكون ذلك بمثابة القضاء المبرم عليها.
والتعارض الذي يمكن ملاحظته هنا مع “القوى الرئيسية” لا يرتبط بالفعل حصراً، بل بالأهمية السياسية والقوة الذاتية التي تكون لتلك القوى، بصرف النظر عن انخراطها في أيٍّ من أشكال التحالف، أو التبعية، التي قد تبرمها في الممارسة بوصفها قوى طامحة لها دورها المرسوم في الصراع، وتتمتع بأقدار معينة من الاستقلالية السياسية والتنظيمية والمالية تساعدها على الحركة وخوض النضالات العامة بدون قيود ولا إكراهات ولا تبعية مُذِلّة تُفْرَضُ عليها باختيار الآخرين حلفاء وأعداء على السواء.
ولو اعتمدت “مبدأ” هذا التعارض، المُشيّد على تعريف شمولي عام، لقلتُ: إن المنطقة المغاربية لم تعرف في معرض تجاربها العامة، منذ تاريخ استقلالاتها الوطنية، سوى منزعين كبيرين من منازع النضال والتحرير: صدر أولهما عن تجارب الحركات الوطنية في النضال من أجل الاستقلال، وكان الثاني من حاصل أهم التطورات الداخلية بعد الاستقلال التي قادت إلى استتباب الدولة الوطنية، وتحولها إلى دولة استبدادية متسلطة تقمع أهم المعارضات الممكنة النابعة من اختيارات مناقضة، أي بوصفها نتيجة منطقية وموضوعية لغياب الديمقراطية أيضاً.
الوضع الحالي للجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، خصوصاً في ارتباطها بمصالح (واستراتيجية) الدولة الجزائرية المنافسة للمغرب في كثير من المجالات، مأزوم
لا بد من الاعتبار بأن المنزع الأول بَرَّزَ في المسار العام توجهين كبيرين: صيغة الأول، العمل الشرعي المنظّم (في مواجهة الدولة وأجهزتها)، الذي كان شعاره الإلحاح على إقامة الديمقراطية، وبناء المؤسّسات، وإطلاق الحريات وتعميم الخيرات إلخ. والثاني اعتماد الكفاح المسلح أسلوباً لمكافحة الاستبداد، والسعي إلى إسقاط الدولة الحامية له بأشرس أنواع التحكم والاستغلال والقمع. المنزع الثاني هو العقدي الذي قام أيضاً على نوعين من الاعتقاد: تمثل الأول، على الصعيد المغاربي، في التوجه الإسلاموي السّني، سواء من خلال ارتباطه بجماعة الإخوان المسلمين، وتأثير أطروحاتهم عليه، علماً أن التجربة المغربية، في بداية القرن الماضي، ارتبطت أكثر بالوهابية ومنزعها البدوي “الفطري” (العودة إلى السلف الصالح) في مواجهة التغريب والانسلاخ عن العقيدة. والثاني نابع، ظاهرةً عامة، من طبيعة التحولات الداخلية، ومن أساس ما فيها من الظروف الاستثنائية التي أجْهَضَت الأحلام الوطنية وتعبيراتها السياسية والدينية المعارضة بشكل عام. مع الإشارة بصورة خاصة إلى أسلوب “التحكّم”، ومصادرة العقيدة من المؤمنين بها والعاملين في سبيل إصلاح توجهها، من حيث الاعتقاد الراسخ والعبادات المستحكمة (جمعية علماء الإسلام في الجزائر، الحركة العاشورية وجامع الزيتونة في تونس، والسنوسية على أساس العقيدة السلفية والتصوف المعتدل في ليبيا، والحزب الإسلامي، القائم على الدمج بين العقيدة والمعاصرة، الموريتاني، ورابطة علماء المغرب قبل تدجينها واستخلافها بالرابطة المحمدية للعلماء).
والواضح أنه انطلاقاً من هذا المنزع أيضاً ظهر توجهان: الإرهابي، الذي استدل على فساد الأوضاع القائمة بالخروج عن الحكم والتشريع والسلطة التي جميعها للدين (الجاهلية والحاكمية)، وافترض أسلوبه بالعنف لتفجير الأوضاع القائمة، وإعادة بناء الأمة لا على أساس الخلافة بوصفها حكماً فردياً، بل من خلال الشورى أساساً شرعياً للولاية. والثاني، هو الاندماج التدريجي والخضوع السياسي للسلطة الحاكمة، في إطار العمل الشرعي الذي اقتضى، في جميع الأحوال، الاعتراف بما لاستبداد الدولة من سيطرة على جميع المجالات، ولم يكن ذلك إلا السبيل المتاح أمامه للاغتناء والتمكن، في حدود معينة، من السلطة: فعلية عن طريق المشاركة في التدبير والتسيير، أو اعتبارية عن طريق الدعوة إلى محاربة الفساد، وإصلاح الأوضاع المُدْقِعة انطلاقاً من الشريعة، وإرشاد المؤمنين إلى ما فيه طاعة الأمير وحسن الخاتمة.
حاصل هذا كله أن المنزعين معاً، على ضوء ما تحصل من الاعتقادات والتوجهات وأشكال الممارسات التي اخترقت مختلف الفضاءات، فضلاً عن حقيقة استبداد النظم القائمة، أحدث، باعتماد مختلف الوسائل والأساليب الضامنة لذلك، شروخاً منظورة صارت مسلمات سوسيولوجية في وقائع المجتمعات المغاربية، بين الدولة والمجتمع، بين النخب والشعب، بين الشرعية (السلطة) والمشروعية (القانون والدستور) إلخ. إلا أن المظهر الأساس الذي لا يمكن تجاوزه، ولا أراه يخفى على أصحاب القرار السياسي والاستراتيجي والنضالي فيما أسميته بـ”القوى الاستثنائية”، هو أنها، بالذات وبالصفة، التعبير المُرَكّز عن الأزمة الوجودية التي يرزح تحتها اليسار المغاربي بمختلف تعبيراته، أي: الضعف التنظيمي، والاغتراب عن واقع الصراع الفعلي، والعجز عن فهم آلياته واختياراته، والأولوية الراسخة لتحرير العقل والذات من الزعامة المركزية والمطلق الأيديولوجي، هذا بالإضافة إلى الهامشية التي تستنجد بأسلوب الشحن المتوتر الذي يقوم به الخطاب الشعبوي القاتل لكل الآمال المعلقة على التغيير الفعلي لجميع الأوضاع الاستثنائية، حيثما كانت قائمة وكيفما كان أسلوب عملها في المواجهة.
فشل العقيدة التحريرية المبنية على الحق في الانفصال في منطقة فيها من الأوضاع الاستثنائية ما لن يسمح، كما بينت تجربة نصف قرن المنقضية، قيام دولة، أو نظام جديد، أو كيان مستقل
من هذا المنطلق، أريد الإشارة إلى وضع استثنائي موجود في قلب المنطقة المغاربية، تمثله قوة استثنائية باسم الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (بوليساريو)، وهو الوضع الذي يؤكد فعلياً ما ذهبتُ إليه أن الأزمة الموضوعية التي تعيشها “القوى الاستثنائية” عامة، بسبب ما آل إليه تاريخها العام من فشل وجمود، فضلاً عن الأزمة المتواصلة، غير الظرفية إطلاقاً، التي تخلخل أهدافها عن المآل الذي رسمته لتحقيقها، تتعارض، من زاوية المنظور الوحدوي الديمقراطي، مع حقائق التطور الموضوعي، التي تتبلور بصورة تدريجية، في ساحة المعارك الوطنية في كل دولة على حدة من دول المغارب، وأعني معضلة التغيير الديمقراطي المطروحة، بشكل حاد، على مختلف مستويات العمل، في تعارض جذري مع مظاهر الاستبداد التي تنتج يومياً ما لا يخفى من أشكال الحصار (القمع والاستهانة الحريات العامة والفردية) والتفقير (الاستغلال الفاحش والتفاوت الطبقي) والتنمية (السوق والعولمة الاقتصادية الفتاكة) إلخ.
على هذا، الاختيارات المبنية على أساس التحرير، أو الانفصال، أو تقرير المصير، سواء في علاقة بطبيعة الأنظمة السياسية الراسخة في المنطقة بمسمّيات عدة، أو في علاقة بالمشكلات الوطنية القائمة، وهي تستوجب النضال والحل، وربما أيضاً في ارتباط تلك الاختيارات بالمرامي الاستراتيجية على الصعيد الإقليمي، يمكن أن تسبّب مزيداً من تعقيد أعمق الإشكالات العالقة في المنطقة، خصوصاً منها ما هو مرتبط بقضايا التغيير التي تنشدها شعوبها. وفي هذا المعرض، أريد الإشارة بصفة خاصة، بناء على التطورات المرتبطة بقضية الصحراء الغربية بعد قرار مجلس الأمن أخيراً (رقم 2797 الصادر يوم 31/10/2025)، إلى قوة استثنائية تسبَّبت، منذ بداية مشروعها الانفصالي، في إحداث كثير من الانشقاقات على الصعيد المغاربي، ويتعلق الأمر بالجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب التي بَنَت قُواها على مفهوم التحرير في تعالقه مع الحق في الانفصال، وإقامة كيان خاص على مبدأ تقرير المصير، لكي أقول، بوضوح، إن الوضع الحالي للجبهة، خصوصاً في ارتباطها بمصالح (واستراتيجية) الدولة الجزائرية المنافسة للمغرب في مجالات، وَضْعٌ مأزوم، لا يخفف منه عودتها، غير المجدية، إلى الكفاح المسلح. ثم إن أزمتها، فيما أرى، ترتبط بثلاثة عوامل شاملة قررت مصير القوى الاستثنائية بعامة في المنطقة المغاربية منذ العقود الأولى لبداية القرن العشرين: المشكلات الداخلية المرتبطة بالكفاح المسلح واستراتيجية التحرير، فضلاً عن العلاقة الذاتية مع النظام الجزائري من خلال الدعم والرعاية والتسليح. والثاني، بسبب الانشقاقات التي تتواصل في صفوفها من جرّاء التناقضات التي تخترق أبنيتها من الناحيتين السياسية والأيديولوجية. الثالث، فشل العقيدة التحريرية المبنية على الحق في الانفصال في منطقة فيها من الأوضاع الاستثنائية ما لن يسمح، كما بينت تجربة نصف قرن المنقضية، قيام دولة، أو نظام جديد، أو كيان مستقل، إلا إذا كان تحت السلطة السيادية للمغرب، أو للجزائر، أي ضد الاختيار الوحدوي الديمقراطي الذي يمكن أن يكون أفقاً ملهماً لنضال الشعوب في المنطقة.
المصدر: العربي الجديد






