لا حظوظ للفدرالية في سوريا ومن يطالب بها يسبح عكس التيارات

مصطفى إبراهيم المصطفى

تختلف العلوم الإنسانية كعلم السياسة وعلم الاجتماع عن العلوم الطبيعية اختلافًا جوهريًا في طبيعة موضوعاتها، وفي إمكانية صياغة قوانين عامة ثابتة.
ففي حين تدرس العلوم الطبيعية ظواهر يمكن قياسها بدقة وتكرار تجاربها، تتعامل العلوم الإنسانية مع الإنسان بوصفه كائنًا معقدًا، متعدد الدوافع، ويعيش داخل سياقات تاريخية وثقافية لا تتكرر على نحوٍ كامل. هذا يجعل إنتاج قواعد صارمة أو عالمية أمرًا بالغ الصعوبة، وربما مستحيلًا في كثير من الأحيان. في العلوم الطبيعية يمكن التحكم بمتغيرين أو ثلاثة، لكن في السياسة والمجتمع هناك الاقتصاد والثقافة والتاريخ والدين والجغرافيا والبنية الطبقية والإعلام والشخصيات القيادية. تفاعل هذه العناصر يُنتج واقعًا فريدًا لا يتكرر بذات الشكل في مجتمع آخر.
تجارب الشعوب لا تقبل الاستنساخ
إن الديمقراطية في فرنسا ليست الديمقراطية في الهند، وليست الديمقراطية في جنوب إفريقيا، فالتوقعات الشعبية، والقيم، والهياكل الاجتماعية، تجعل الاستنساخ السياسي صعبًا. ولا يختلف الأمر كثيرا عندما نتحدث عن الفدرالية، فهي في الأنموذج الأميركي تختلف عنها في الأنموذج الإثيوبي، كما تختلف عن غيرها من النماذج للدول ذات الشكل الفدرالي. ذات العوامل قد تؤدي لنجاح تجربة هنا وفشل ذات التجربة في مكان آخر، فالفدرالية على سبيل المثال؛ قد تكون حلا سحريا لأزمات بلد ما، في حين قد تكون سببا مباشرا في ضعف بلد آخر وربما تفككه. ضمن هذا المنطق وفي هذا السياق أثارت أطروحة النظام الفيدرالي التي تنادي بها بعض القوى السياسية السورية وتعارضها أغلبية شعبية جدلا واسعا في الشارع السوري، ففي حين يحاول دعاة هذا الطرح الترويج له كحل أمثل لمشكلات التنوع الثقافي؛ يعتقد معارضو الفكرة أنها خطوة أولى نحو التقسيم.
يجادل دعاة الفدرالية أنه ليس بالضرورة أن ينشأ الاتحاد الفدرالي نتيجة لاندماج عدة دول، وإنما هناك بعض التجارب التي سارت الأمور فيها بالعكس.
ماذا يقصد بالنظام الفدرالي؟
في المراجع الأكاديمية تٌقسّم الدول من حيث الشكل إلى الدول البسيطة (أو الموحدة) والدول المركبة (أو الاتحادية)، وتأخذ هذه الأخيرة عدة أشكال أهمها الدولة الاتحادية، أو ما يسمى الاتحاد الفدرالي، ويقصد بالاتحاد المركزي (الفدرالي): اندماج عدة دول في دولة واحدة بحيث تفقد الدول الأعضاء شخصيتها الدولية، وتصبح هذه الدول بعد قيام الاتحاد دويلات أو ولايات أو إمارات، وتنشأ شخصية دولية جديدة هي شخصية دولة الاتحاد المركزي التي تتولى جميع الاختصاصات الخارجية باسم جميع الأعضاء في الاتحاد، كما تتولى جانبا من الشؤون الداخلية لدويلات أو ولايات أو إمارات الاتحاد. وعلى هذا، فالفدرالية نظام حكم يقوم على تقاسم السلطة بين حكومة مركزية (اتحاد) ووحدات أصغر مثل الولايات أو الأقاليم أو المحافظات، بحيث يكون لكل مستوى صلاحيات دستورية ثابتة لا يمكن إلغاؤها بقرار فردي من المركز.
الفدرالية المعاكسة وضعف الدولة
يجادل دعاة الفدرالية أنه ليس بالضرورة أن ينشأ الاتحاد الفدرالي نتيجة لاندماج عدة دول، وإنما هناك بعض التجارب التي سارت الأمور فيها بالعكس، ومن الأمثلة على ذلك: نيجيريا وإثيوبيا والباكستان، وهذا صحيح؛ لكن هذا التحول نادر لأن الفدرالية تعني تفكيك السلطة وتوزيعها، وهو تغيّر يمس جوهر الدولة نفسها وبُنيتها العميقة. وفي التحليل السياسي المقارن، يُعدّ تحول دولة موحّدة إلى دولة فدرالية من أصعب التحولات المؤسسية، فالدول غالبًا تتجه عكس ذلك: من الفيدرالية نحو المزيد من المركزية، وليس العكس. ولعله من خلال مراقبة هذه التجارب الفاشلة سجل المراقبون حالات تؤدي فيها الفدرالية إلى ضعف الدولة؛ كأن تُبنى على أساس عرقي أو طائفي متفجّر، فهي تتحول إلى ترسيم للانقسام بدل إدارته، وبالتالي تعزز الهويات الجزئية على حساب الهوية الوطنية، وتدفع لاحقا الأقاليم للمطالبة بالانفصال.
هناك عدد كبير من الدول الإقليمية والعالمية تضررت بسبب ما آلت إليه الأحوال في سورية، وهي جميعها تبدو جادة في مساعيها لإغلاق هذا الملف، وإعادة سورية إلى حالة الاستقرار، وعلى رأس هذه الدول تتربع حكومات قوامها رجال سياسة..
المركزية هي الحل للدول المأزومة وليس العكس
علاوة على ما سبق، تحتاج الدول التي خرجت للتو من حرب مدمرة أو أزمة خانقة إلى نظام مركزي قوي يمتلك ما يكفي من السرعة والرشاقة في اتخاذ القرار، وهذا ما حصل في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية حيث تم اللجوء إلى مركزية قوية لإعادة الإعمار، فالحكومات الفدرالية في الأحوال الطبيعية؛ تعاني من بطء صياغة السياسات العامة بسبب تعدد المؤسسات والحاجة إلى التوافق وتجنب الصدامات، وفي كثير من الأحيان تتعارض سياسات الحكومة المركزية مع حكومات الولايات، ويؤدي هذا التعارض إلى ازدواجية في المسؤوليات، وهدر في الموارد، وبطء تنفيذ البرامج. كما تعاني الحكومات الفدرالية من صعوبة في اتخاذ القرارات الحاسمة والضرورية في بعض الملفات، فآلية اتخاذ القرار الجماعي بطيئة ومعقدة جدا.
في مجمل الأحوال، هناك عدد كبير من الدول الإقليمية والعالمية تضررت بسبب ما آلت إليه الأحوال في سورية، وهي جميعها تبدو جادة في مساعيها لإغلاق هذا الملف، وإعادة سورية إلى حالة الاستقرار، وعلى رأس هذه الدول تتربع حكومات قوامها رجال سياسة، وكل هؤلاء يعلمون جيدا، بل ويعتبرونه من البديهيات؛ أن استعادة سورية لعافيتها يحتاج لحكومة مركزية تتمتع بما يكفي من القوة لإنجاز هذه المهمة. لذلك، تبدو مطالب بعض القوى بالفدرالية سباحة معاكسة لتيار الأغلبية الشعبية، ولتيار التوجهات الإقليمية والدولية.
يلجأ القادة في الحركات السياسية وحركات التمرد – عادة – إلى إقناع مرؤوسيهم وقاعدتهم الشعبية أن النضال والتضحية من أجل قضية ما لا بد أن يكلل بالنصر، لكن الحقائق تقول: أحيانًا تنتهي النضالات بكوارث، وأحيانًا بكوارث أكبر مما كان موجودًا أصلًا، فعندما يتضخم الهدف ويتحول إلى “كل شيء أو لا شيء” ويرفض القادة التسويات والحصول على المتاح، فإنهم يتجهون نحو خسارة كل شيء. وهذا ما يتعارض مع جوهر السياسة الذي يقوم على تجنب الكارثة، لا تحقيق المجد.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى