
دخلت خطّة الرئيس الأميركي ترامب لإنهاء حرب غزّة حيّز التنفيذ منذ نحو شهرَيْن، وهي فترة تكفي لرصد ما يعترضها من عقبات وما تنطوي عليه من إشكالات، وأيضاً لتقييم سلوك الأطراف المعنية بتطبيقها، سواء من حيث مدى التباين في تفسير النصوص، أو من حيث درجة الحرص على الوفاء بما تضمّنته من التزامات ووعود. ولأن مصطلح الأطراف المعنية ينصرف، في العادة، إلى أطراف الصراع المباشرين (إسرائيل والفصائل الفلسطينية المسلحة)، والأطراف الضامنة للخطّة (الولايات المتحدة ومصر وقطر)، يتعيّن أن نأخذ في الحسبان أيضاً مواقف الأطراف التي أعلنت تأييدها الخطة، وأبدت استعدادها للمشاركة في تنفيذها، خصوصاً أنها تتصدّى لمعالجة جملة من القضايا بالغة التعقيد مثل وقف القتال، وتبادل الأسرى، وانسحاب القوات الإسرائيلية، ودخول المساعدات الإنسانية، ونزع سلاح المقاومة، والإعمار، ومستقبل القضية الفلسطينية.
في ما يتعلّق بوقف القتال، تشير الخطّة إلى أن “الحرب ستنتهي فور موافقة الطرفَيْن عليها، وستُعلَّق جميع العمليات العسكرية، بما في ذلك القصف الجوي والمدفعي، وستبقى خطوط القتال مُجمَّدةً إلى أن تُستوفى شروط الانسحاب الكامل” (البند 3). ويلاحظ هنا أن إسرائيل لم تلتزم بما جاء في هذا البند، فخطوط القتال لم تُجمَّد، ولا يكاد يمرّ يوم من دون أن تمارس إسرائيل هوايتها المُفضَّلة في قصف المدنيين بكل أنواع الأسلحة، ما أسفر عن سقوط ما يزيد على ستمائة شهيد و1200 جريح منذ دخول الخطّة حيّز التنفيذ الفعلي، بمتوسّط يومي يصل إلى عشرة قتلى و20 جريحاً، معظمهم من النساء والأطفال.
وفي ما يتعلّق بتبادل الأسرى، حدّدت البنود 4 و5 و6 أسسه ومعاييره وتوقيتاته. فالبند 4 ينصّ على: “تسليم جميع الرهائن المحتجزين في غزّة، أحياء كانوا أم أمواتاً، في غضون 72 ساعة من قبول إسرائيل العلني للاتفاق”، وبعد إتمام هذه الخطوة، “تفرج إسرائيل عن 250 سجيناً من المحكوم عليهم بالسجن مدى الحياة، بالإضافة إلى ألف وسبعمائة معتقل فلسطيني من غزّة ممَّن اعتُقلوا بعد بداية الحرب، بما في ذلك النساء والأطفال” (البند 6). أمّا إسرائيل فيتعين عليها أن “تعيد جثامين 15 غزّياً مقابل كل رهينة تتسلّم جثتها”. ويلاحظ هنا أن التعامل مع هذه المسألة لم يخلُ بدوره من تعقيدات شديدة، رغم الحرص على تناولها بأكبر قدر من الإحساس بالمسؤولية. فقد بذلت الفصائل كل ما في وسعها لاستخراج جثث الأسرى المدفونين تحت طبقات هائلة من الركام، رغم ما تكبّدته من مشقّة بسبب محدودية الإمكانات المتاحة لها، فحتى كتابة هذه السطور، لم تكن هناك سوى جثّة واحدة متبقية. ومع ذلك، لم تكفَّ إسرائيل عن التذرّع بتأخّر التسليم لتبرير انتهاكاتها المتكرّرة للالتزامات الواقعة على عاتقها. كما يُلاحظ في الوقت نفسه أن معظم الجثث الفلسطينية التي أعادتها إسرائيل إلى القطاع كانت مجهولةَ الهُويَّة، وحملت آثار تعذيب وحشي، ووصلت إلى مثواها منقوصةَ الأعضاء، وكلّها جرائم ضدّ الإنسانية.
نزع سلاح فصائل غزّة يصبح قابلاً للتنفيذ إذا ضمنت أن سلاحها سيُسلَّم إلى سلطة وطنية فلسطينية منتخبة
وفي ما يتعلّق بانسحاب القوات الإسرائيلية، أكّدت الخطّة أن إسرائيل “لن تحتلّ غزّة أو تدمجها، وستسحب قواتها تدريجيّاً إلى حين تتمكّن قوة الاستقرار الدولية (ISF) والأجهزة الأمنية الجديدة من السيطرة الفعلية على القطاع، مع إمكانية البقاء في محيط أمني مؤقّت إلى أن يتحقّق الاستقرار الدائم” (البند 17)، وأن الانسحاب إلى “خطٍّ متفق عليه” سيتم في مرحلة أولى (البند 3). ويلاحظ هنا أن إسرائيل لم تنسحب إلا من 45% من إجمالي مساحة القطاع حتى الآن، ما يعني أنها لا تزال تسيطر نحو 55% من هذه المساحة، بل ولا تتردّد في التغوّل داخل الجزء المُحرَّر، ولا تزال تبحث عن ذرائع لكي لا تنتقل إلى المرحلة التالية من الخطّة.
وفي ما يتعلّق بالمساعدات الإنسانية، فقد تناولتها بنود كثيرة، يؤكد البند الثامن أنها “ستتدفّق إلى غزّة فور قبول الاتفاق، وستشمل إعادة تأهيل البنية التحتية (مياه، كهرباء، صرف صحّي)، وإعادة بناء المستشفيات والمخابز، وإزالة الأنقاض، وتنظيف الطرق”. ويحدّد البند التاسع “كيفية دخولها وتوزيعها من دون تدخّل من الأطراف المتحاربة”، وذلك “عبر وكالات دولية مثل الأمم المتحدة والهلال الأحمر وغيرها”، وأن المعابر الحدودية، مثل معبر رفح، “ستفتح في كلا الاتجاهين وفق آلية مشابهة لما تم الاتفاق عليه في 19 يناير/كانون الثاني 2025”. ويلاحظ هنا أن ما سمحت إسرائيل بدخوله لا يمثِّل سوى 25% فقط من الكمّية المُتَّفق عليها (600 شاحنة يوميّاً)، ولم يشملْ أيَّ مساعدات تتعلّق بإعادة تأهيل البنية التحتية، وأن معبر رفح لم يُفتح في الاتجاهين، فلا تزال إسرائيل تصرّ على فتحه في اتجاه واحد لتسهيل هجرة الفلسطينيين بعد أن جوَّعتهم.
رغم ما تضمّنته خطّة ترامب من عيوب ومثالب، فإنها تستطيع، نظرياً على الأقلّ، أن تساعد في التوصّل إلى تسوية شاملة للصراع في المنطقة إذا توافرت لها شروط معينة
وفي ما يتعلّق بنزع السلاح وتحديد مصير المقاتلين، فقد وردت بشأنهما بنود متفرّقة في الخطّة. فالبند الأول يقرّر أن غزّة “ستكون منطقةً خاليةً من التطرّف والإرهاب ولن تشكّل تهديداً لجيرانها”. والبندان 13 و14 يؤكّدان “عدم السماح لحماس ولأيِّ فصائل أخرى بأن يكون لها أيُّ دور في حكم غزّة، بشكل مباشر أو غير مباشر، وأن البنية التحتية العسكرية، المُكوَّنة من أنفاق ومرافق تصنيع أسلحة ومراكز قيادة وغيرها، ستُدمَّر بالكامل ولن يُعاد بناؤها”، وستكون هناك “عملية نزع سلاح شاملة تحت إشراف مراقبين مستقلّين، تتضمّن برنامج تمويل من جهات دولية لشراء الأسلحة من المقاتلين وإعادة إدماجهم”. بينما حرص البند 15 على التأكيد أن “شركاء إقليميين ودوليين سيقدّمون ضمانات بأن غزّة الجديدة لن تشكّل أيَّ تهديد لجيرانها أو لأمن سكّانها”. أمّا مصير المقاتلين فقد حدّده البند السابع على النحو التالي: “كل من يوافق، من عناصر حماس أو من عناصر آخرين مسلحين، على نزع سلاحه ويقبل بالتعايش السلمي، سيُمنح عفواً وسيتاح لكل من يرغب منهم في مغادرة غزّة ممرّاً آمناً”. ويلاحظ هنا أن خطّة ترامب لم تحدّد أيَّ جدول زمني لإتمام عملية نزع السلاح، ولم تربط هذه العملية بأيِّ قضية أخرى.
وفي ما يتعلّق بالإعمار وتحديد مستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته، أفاد البند 11 بأن “منطقة اقتصادية خاصة ستقام في غزّة، وسيكون لها تعرفات جمركية مميّزة، وستُبرم اتفاقيات مع العديد من الدول لجذب الاستثمارات وخلق فرص عمل جديدة”. ثم أضاف البند 20: “بينما تتقدّم عملية إعادة إعمار غزّة وتنفيذ الإصلاحات، سيُفتح طريق نحو أفق سياسي طويل الأمد، بما في ذلك إمكانية تحقيق دولة فلسطينية، بشرط أن تقوم السلطة الفلسطينية بتنفيذ إصلاحات تجعلها قادرةً على إدارة القطاع بشكل آمن وفعّال”. وكان هذا هو البند الوحيد الذي أشار صراحة إلى “دولة فلسطينية”، ولكن في إطار صياغة لغوية اتسمت بالعمومية، ورُبِط قيامها بإصلاحات يتعيّن على السلطة الفلسطينية أن تجريها من دون تحديد ماهيتها أو ربطها بجدول زمني واضح.
الرهان على قدرة ترامب على إجبار نتنياهو على تغيير سياساته رهان حسابات خاطئة
رغم ما تضمّنته خطّة ترامب من عيوب ومثالب، فإنها تستطيع، نظرياً على الأقلّ، أن تساعد في التوصّل إلى تسوية شاملة للصراع في المنطقة إذا توافرت لها شروط معينة. فالقوة متعدّدة الجنسيات تصبح قابلةً للتشكيل ولمشاركة أكبر عدد ممكن من الدول العربية والإسلامية فيها، إذا اقتصرت مهمتها على حماية الحدود بين إسرائيل وفلسطين، من ناحية، وعلى تدريب قوات فلسطينية قادرة على تحقيق الأمن المجتمعي وعلى تهيئة البيئة المناسبة لإطلاق عملية الإعمار، من ناحية أخرى. ونزع سلاح الفصائل الفلسطينية المسلحة في غزّة يُعدُّ أمراً قابلاً للتنفيذ إذا ضمنت هذه الفصائل أن سلاحها سيُسلَّم إلى سلطة وطنية فلسطينية منتخبة. وإصلاح السلطة الفلسطينية ليس مستحيلاً إذا انطلق من انتخابات حرّة ونزيهة تُجرى بالتوازي في الضفة والقطاع وخلال فترة زمنية لا تتجاوز العامَيْن، شريطة أن تلتزم جميع الأطراف المحلّية والإقليمية والدولية بقبول نتائجها، وأن تتولّى السلطة المنبثقة عنها جمع سلاح الفصائل المسلحة في الضفة وغزّة والشروع في الوقت نفسه في بناء مؤسّسات الدولة الفلسطينية الجديدة.
قد يبدو هذا النوع من الأطروحات مُغرِقاً في رومانسيته، لكن ما يجعله يبدو خياليّاً وغير واقعي أمران: الأول إصرار الطرف الآخر (إسرائيل) على إنكار وجود الشعب الفلسطيني، وعدم الاعتراف بأن السبب الحقيقي في عدم الاستقرار الذي تعاني منه المنطقة منذ عقود طويلة يكمن في الاحتلال الصهيوني للوطن التاريخي للشعب الفلسطيني. وقد أظهر “طوفان الأقصى”، وما تلاه من حرب إبادة جماعية استمرّت طوال العامَيْن الماضيَّيْن، أن هذا الشعب لن يتخلّى مطلقاً عن أرض أجداده مهما كانت التضحيات، وأنه قادر على أن يواصل صراعه مع المشروع الصهيوني لقرن آخر بالعزيمة والصلابة نفسيهما. والثاني الانحياز الأميركي غير المشروط لدولة إسرائيل، أيّاً كان لون الحكومة التي تقودها، حتى لو كانت دينيةً يمينيةً تمارس أقصى السياسات تطرّفاً وعنصرية. فلولا هذا الانحياز الأعمى لما وصل التوحّش الإسرائيلي إلى ما هو عليه الآن من إجرام وشطط. والدول العربية والإسلامية التي أعلنت موافقتها على خطّة ترامب، وعبَّرت عن استعدادها للتعاون معه لوضعها موضع التطبيق، لم تتخذ هذا الموقف اقتناعاً منها بأنها خطّة متوازنة أو عادلة، ولكن لاعتقادها أن ترامب هو الشخص الوحيد القادر على ممارسة ما يكفي من ضغط لإجبار نتنياهو على تغيير سياساته، وهو الرهان الذي سرعان ما ستكتشف أنه بُني على حسابات خاطئة. فلكي ينجح ترامب، عليه أن يدخل مع نتنياهو في مواجهة مفتوحة، وهو ما لن يحدث لأنه غير منطقي وضدّ طبائع الأمور!
المصدر: العربي الجديد






