مرتكزات انتقال سوريا الجديدة إلى دولة تنموية /1 – 3/

الدكتور عبد الله تركماني

يشهد موضوع التنمية اهتماماً خاصاً في صياغة سياسات الدول، على مستويات عديدة، اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية. إذ إنّ العالم المعاصر ينطوي على معانٍ جديدة لحياة الناس، تتطلب ضمان إرساء دولة تنموية، دولة الحق والقانون التي توفر الرفاهية لمواطنيها من عمل وصحة وسكن وتعليم، من خلال تنمية تشاركية بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
وفي هذا السياق، من المهم تجاوز المفهوم الضيق للتنمية، باعتبارها نمواً اقتصادياً فقط، إلى مفهوم أوسع ينطلق من أنّ البشر هم الثروة الأهم للأمم، وهذا ما يمكن أن تحققه الدولة السورية التنموية المنشودة في سوريا الجديدة، من خلال التنمية التشاركية بين مختلف القطاعات وتوسيع قاعدة الملكية. انطلاقاً من أنّ الدولة التنموية والحكم الصالح يمكنهما السير معاً إذا توفرت إرادة سياسية، وتشريعات ضامنة ومؤسسات وقضاء مستقل، وحوكمة رشيدة تقوم على المساءلة والشفافية، وتداول سلمي للسلطة، ومجتمع مدني ناشط، ورقابة شعبية وإعلام حرٍّ.
أولاً. الإطار المفاهيمي لأهم المصطلحات
لن يكون هذا الإطار نظرياً فحسب، وإنما سنربط هذه المفاهيم بتجارب ناجحة، انتقلت من الحرب الأهلية إلى الدولة التنموية. فمثلاً رواندا أصبحت الأكثر استقراراً وتنمية في أفريقيا بعد أكثر الصراعات الأهلية دموية في القرن العشرين بين قبيلتي الهوتو والتوتسي، كما استطاعت أن توحد الروانديين في إطار وطني جامع. حيث “نما الناتج المحلي بأكثر من 8 في المئة بين عامي 1995 و2022. وزاد متوسط العمر من 49 عاماً إلى 66 عاماً بين عامي 2001 و2021، وانخفضت وفيات الأطفال بنسبة 77 في المئة” .
(1) – الدولة الفاشلة
مصطلح يُتداول الآن على نطاق واسع في التحليلات الاستراتيجية، فهي صفة تلازم الدول التي تعجز عن القيام بوظائفها عامة، أي حماية مواطنيها وتأمين سيادتها وحدودها الإقليمية.
ومنذ عام 2005 بدأ صندوق السلام الأميركي بالتعاون مع مجلة وزارة الخارجية في إصدار تقارير سنوية حول الدول الفاشلة، اعتماداً على الخصائص الرئيسية التالية : فقدان سيطرة الدولة على أراضيها أو جزء منها، وتآكل السلطة الشرعية من خلال تعطيل حكم القانون وانتهاك حقوق الإنسان، وعدم القدرة على توفير الخدمات العامة، وعدم القدرة على التفاعل مع الدول الأخرى كعضو كامل العضوية في المجتمع الدولي.
وهذه الخصائص نجدها مجسدة في حالة الدولة السورية، خاصة بعد الحراك الشعبي السوري عام 2011، فمن جهة فقدت سلطة الدولة سيادتها على الحدود، ومن جهة أخرى باتت مستباحة من روسيا وميليشيات إيران الطائفية، كما فقدت القدرة على تأمين متطلبات الحياة الكريمة لمواطنيها، وتسوّق مخدر الكبتاغون في المنطقة والعالم، مما يعزلها عن المجتمع الدولي.
ووفقاً لتقارير ” صندوق السلام ” جاء ترتيب سورية بين دول العالم، في مؤشر الدول الهشة أو الفاشلة، في الفترة ما بين 2005 -2016، كما يلي :
الترتيب الدولي العام
29 2005
33 2006
40 2007
35 2008
39 2009
48 2010
48 2011
23 2012
21 2013
15 2014
9 2015
6 2016

وجاءت سورية، في تقرير عام 2020، في المركز الثالث عالمياً، بعد اليمن والصومال، وبدرجة 110.7 من 120 التي تصنف كمستوى ” إنذار عال جداً “.
(2) – الدولة التنموية
حظي المفهوم باهتمام كبير من باحثي السياسات التنموية، وقد ظهر لأول مرة عام 1982 على يد عالم السياسة الأميركي تشالمرز جونسون فى كتاب له حول ” المعجزة اليابانية “. ويشير المفهوم إلى نموذج تنموي تلعب فيه الدولة الدور الأهم، من حيث تدخلها في مسار التنمية وتوجيهه، وقد تحددت مؤشرات معينة للدولة التنموية : وجود دور مهم للكفاءات الاقتصادية والإدارية تتمكن من وضع أفضل السياسات الاقتصادية، ودور لآليات السوق إلى جانب الدور التدخلي الأساسي للدولة، وسياسة اقتصادية تقوم أساساً على تحقيق أعلى معدلات النمو الاقتصادي، ونظام تعليمي متطور يستجيب لسوق لعمل ولأهداف التنمية، ونظام سياسي مستقر، وادّخار مرتفع وكافٍ لتمويل الاستثمار، والتوجه نحو السوق العالمية من خلال سياسة ” تشجيع التصدير “.
(3) – التنمية التشاركية
دخل مفهوم التنمية التشاركية بين القطاعين العام والخاص ومنظمات المجتمع المدني في إطار إرهاصات نهاية الحرب الباردة خاصة، مع انهيار الأنظمة الشمولية وسقوط جدار برلين. إذ إنّ التنمية الشاملة اقتضت التشاركية من أجل تحسين مستوى المعيشة، من خلال توفير فرص العمل والصحة والتعليم والسكن للمواطنين، وتنمية الموارد البشرية، بما فيها مشاركة النساء والشباب في الشأن العام.
ويعد مفهوم التنمية التشاركية من المفاهيم الجديدة التي ” أصبحت متبادلة في السياقات الاقتصادية والإدارية بحكم تعقّد علاقات السوق، ليشير إلى علاقة قانونية بين منظمات شريكة، وقد اتسع هذا المفهوم ليشمل مؤسسات مدنية، فهو صيغة بديلة أفرزتها السياسات التي حلت محل الدولة الراعية والتي تقوم على مقاربة الاعتماد المتبادل، بغرض تحقيق مصلحة عامة مشتركة ” .
ويبدو أنّ تعميم اللامركزية الإدارية يساهم في زيادة مشاركة المواطنين في متابعة المشاريع والسياسات التنموية للدولة. ويمكن الاستفادة من تجربة رواندا في إحداث ” صندوق تنمية المجتمع “، الذي يمثل مؤسسة حيوية في جهود اللامركزية، حيث ” يشرف وينسق إدارة المناطق والبلديات، كما أنه يمثل قناة لتوزيع الميزانيات التي تُخصّص للمشاريع أو البرامج على مستوى المقاطعات، والمنح المقدمة مباشرة لهذه المقاطعات، حيث تشمل الأولويات المشاريع التعليمية، والمشاريع الصحية، ومشاريع البنية التحتية الصغيرة ” .
(4) – الحكم الرشيد
يعتبر الحكم الرشيد أحد توجهات العصر في عالم السياسة والاقتصاد وإدارة الأعمال، ويُبنى على ركائز أساسية: المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة القانون، والفاعلية، والإنصاف.

ثانيًا. مظاهر إخفاقات التنمية في سورية التي مهدت للإعلان عن أنها دولة فاشلة بعد سنة 2011
لم تنجح حكومات حزب البعث، منذ انقلاب 8 آذار/مارس 1963، بتفاوت بين المراحل، في إنجاز تنمية شاملة تلبي حاجات الشعب السوري، بل أدت سياساتها إلى تراكم الثروة في أيدي مافيات الحكومات المتتابعة. خاصة بعد تشجيع القطاع الخاص الفردي الطفيلي، وغياب السياسات التنموية التشاركية بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني التعاوني. إضافة إلى غياب الحوكمة الرشيدة، بما تقتضيه من مؤسسات رقابية وآليات الشفافية والمحاسبة، بل تقديم أهل الولاء على أهل الكفاءة، مما أدى إلى انتشار الفساد وتغييب دور الإعلام في كشف بؤره.
وتدل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، منذ ثمانينات القرن الماضي إلى عام 2005، على التراجع عن مجملها إذ ” تتراجع الاستثمارات، وتتراجع إنتاجية الاستثمار، وإنتاجية قوة العمل، وترتفع معدلات البطالة، وترتفع معدلات الفساد، وتتراجع كفاءة الجهاز الحكومي، وتتراجع قدرته على تطبيق السياسات وتنفيذ القرارات، ويتراجع مستوى التعليم الحكومي، وخاصة الجامعي، وتتراجع الصادرات الصناعية، وتتراجع القدرة التنافسية للاقتصاد، وتتراجع مؤشرات التنمية الاجتماعية لسورية في تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة ” . كما تمَّ ملاحظة أنّ الطابع الريعي للاقتصاد السوري في تزايد، في حين أنّ التوجه العالمي هو تزايد حصة قطاعات الاقتصاد الحديث، التي تقوم على معطيات مجتمع واقتصاد المعرفة.
ويمكن الاستنتاج من مؤشرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بعيداً عن الأرقام المعممة من قبل السلطة في خطابها التنموي، ففي ظل غياب الحريات العامة ومنظومة حقوق الإنسان، أُخضع ذلك الخطاب للأهواء السياسية للسلطة. إذ تشير تلك المؤشرات إلى: انتشار الفساد، وغياب سيادة القانون، والمخاطر المحيطة بالاستثمار، وغياب الحريات الفردية والعامة…
ومن المظاهر السائدة للفساد يمكن الإشارة إلى : انتشار الرشوة في العديد من مؤسسات الدولة، واستغلال المناصب الرسمية للثراء من خلال الدخول في قطاعات الأعمال الخاصة، وتبذير المال العام من خلال منح رخص أو إعفاءات ضريبية أو جمركية لأشخاص أو شركات لتحقيق مصالح متبادلة أو مقابل رشوة.
وقد كان للفساد نتائج سلبية على سياسات التنمية، منها: الفشل في جذب الاستثمارات الخارجية وهروب رؤوس الأموال المحلية، وضعف عام في توفير فرص العمل وتوسيع ظاهرة البطالة والفقر، وهدر الموارد بسبب تداخل المصالح الشخصية بالمشاريع التنموية العامة.. وعليه فقد احتلت سورية المرتبة 147 من بين 180 شملها تقرير ” منظمة الشفافية الدولية ” لعام 2009. وهنا يُطرح سؤال عن مدى شرعية نظام لم يستطع أن يوفر الحدَّ الأدنى من الحاجات الاقتصادية والاجتماعية لشعبه؟
وتشير المعطيات المتكررة إلى أنّ من مظاهر إخفاقات التنمية، عشية الحراك الشعبي في عام 2011، أنّ ثلث السوريين كانوا تحت خط الفقر، كما أنّ ثمة فوارق اجتماعية وجهوية. إذ وفق تقرير الفقر وعدالة التوزيع في سورية، الذي أعدته هيئة تخطيط الدولة بالتعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في سورية عام 2008، أنّ الفقر ” يشمل 33.6% من السكان، مما يعني أنّ حوالي 6.7 ملايين من السوريين يعتبرون فقراء، خاصة في الأرياف، ومن هذه المجموعة الكبيرة فإنّ 12.3% من السكان، يمثلون حوالي 2.4 مليوناً، يصنفون على أنهم يعيشون في فقر شديد “. وأوضح التقرير الأبعاد الجغرافية للفقر في سورية، حيث ” ظهرت المنطقة الشمالية الشرقية باعتبارها الأكثر فقراً، إذ يصل معدل الفقر الشديد فيها إلى 15.4%. وعند أخذ معدل الفقر الإجمالي بعين الاعتبار، يؤكد التقرير أنّ حالة الفقر الأعلى حاضرة بصورة متساوية بين المنطقة الشمالية الشرقية والمنطقة الجنوبية ” .
وفي الواقع كان لتراجع دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، خاصة مع التوجهات الاقتصادية الليبرالية في الخطة الخمسية العاشرة، بما سمي ” اقتصاد السوق الاجتماعي” في عهد بشار الأسد، مما أدى إلى ” تحوّل فئات واسعة من الطبقة الوسطى نحو الفئات الفقيرة، وبات وضع الفئات الفقيرة أصعب.. وإنّ الوضع الاجتماعي شهد صعوداً وهبوطاً خلال العقود الأخيرة، لكن في العقد الأول من القرن الحالي أصبح الأمر أكثر صعوبة، مع استمرار معدلات المواليد المرتفعة، وارتفاع أعداد الوافدين إلى سوق العمل، وضعف قدرة القطاع الخاص على توفير فرص عمل كافية، والقيام بالأدوار التي تتخلى عنها الدولة ” .
وتعود أغلب أسباب المؤشرات السلبية السابقة إلى ما فرضته سلطة الاستبداد من أوهام إمكانية فصل مجال التنمية الاقتصادية عن مجالاتها الأخرى، السياسية والاجتماعية والثقافية. إذ إنّ السلطة اعتمدت الأجهزة الأمنية للتحكم في المجتمع، من خلال تقييد فعالية نشطاء المجتمع المدني، في مجال الرقابة والشراكة مع الدولة في التنمية الشاملة. وقد ظهر ذلك جليّاً في تعامل سلطة الوريث بشار الأسد مع فعاليات نشطاء ربيع دمشق، خلال عامي 2000 و2001، حيث أُغلقت منتديات الحوار وسُجن أبرز مسؤوليها ونشطائها.
وهكذا، أُلحقت أغلب الفعاليات الاجتماعية والثقافية والسياسية بـ ” المنظمات الشعبية ” للسلطة وبـ ” الجبهة الوطنية التقدمية “، تكريساً لشمولية سلطة الاستبداد منذ انقلاب 8 آذار/مارس 1963. وكان من نتيجة هذه التوجهات فشل التنمية الشاملة، بل تقييدها من خلال عسكرة العديد من قطاعات الاقتصاد والمجتمع، في ظل الدولة الأمنية، وتحت شعار ” اقتصاد السوق الاجتماعي “.
وهكذا، فإنّ إخفاقات التنمية في سورية مرتبطة بسياسات وخيارات استراتيجية، إذ إنّ الحديث عن الإصلاح، منذ ثمانينات القرن الماضي، لم تؤدِ إلى أية نتائج تنموية معتبرة .
وهكذا، فإنّ جوهر المشكلة غياب الإصلاح السياسي، المفترض أن يكون أحد أعمدة التوجهات الليبرالية للسلطة، بما يفتح في المجال للحريات الفردية والعامة وقوننة تشكيل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى وجود إعلام مستقل، بما يوفر الرقابة المجتمعية على سياسات السلطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى