الأمم المتحدة من همرشولد إلى فليتشر

جمال محمد إبراهيم

(1)
زار السودان وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، السفير توم فليتشر، ليقتحم أتون حرب السودان الدائرة بين جنرالين تتقاتل قواتهما بلا هوادة، وهو قتالٌ مرٌّ حول شرعية يتسابقان لنيلها، من دون جدوى. ذلك قتال طرفاه خاسران، والمتفرّجون على المدرَّجات يعرفون أنهم هُم الرّابحـون، والخاسـر الأكبر شــعبٌ مغلوبٌ على أمره، لا سماء من فوقه ولا أرض من تحته، في بلدٍ تتهاوَى مؤسَّساته ومقـوِّماته وتاريخه. وفيما الكارثة تواصل طحنها لتنال صفة “حرب الألف يوم”، هنالك من يصمِّم على مواصلة القتال إلى آخر مُسلَّح، والمجتمع الدولي يراوح مكانه وكأنه ينتظر أياً من الطرفين سيقضي على الأخر. من يدري، لعلّ الأمم المتحدة قد بلغتها قصة مقتلة “داحس والغبراء” في بلاد العرب قبل عدة قرون، وبلغ أمدها نحو 40 عاماً. تلك حروب السيوف والحراب والسكاكين، لكن في القرن الحادي والعشرين الماثل، القتال فيه بالسلاح المسيّر إلكترونياً ورقمـياً وخوارزمياً.
(2)
غامر السـفير توم فليتشر بالدخول إلى قلب المعارك والاقتتال والدّمار المشترك في السُّودان، ونحسب مغامرته المحفوفة بالمخاطر محمدة للمنظمة الأممـية. لعلها تجربة قاسية للرجل، أن يعـيد إلى الأذهان تجربة شبيهة، خاضها، قبل نحو 60 عاماً، أمينٌ عام سـابق للأمم المتحدة اسمه داغ همـرشولد. خلال معارك واشتباكات بدتْ صراعاً داخلياً مسـلحاً بين حكومة شرعية في الكونغو ومعارضة نازعتها السلطة، قتل خلالها زعيم الكونغو باتريس لوممبا، كذلك لقي المسؤول الأممي الأول (همرشولد) حتفه غيلة هو الآخـر، فوق سماء أحراج الكونغو.
ارتعبَ العالم ممّا شــاهد من وحوش القرن الحادي والعشرين الجُــدُد، وقد تفـوّقـتْ أفاعيلهم على محارق الفـوهرر هـتـلـر في سنوات الحرب العالمية الثانية
مَـن وراء اشتباكات أهل البلاد وقد تحوَّلت حرباً أهلية، ثمَّة أيادٍ وأطرافٌ أجنبية صَبّت الزَّيـت على الـنّـار، وأوغلـت بيديها فكانتْ أصابع الشـر وراء مقتل زعيم الكونغو، ووراء تفجير طائرة الأمين العام للأمم المتحدة، وطويت تفاصيل الجريمتين، فالفاعل مجهول كما قـيل. وبعد أربعة عقـود، ومن وثائق سـرّية كُشفَ عنها الستار في جمهورية جنوب أفريقيا، تكشَّفتْ خفايا أبعاد الجريمتين والأيادي الأجنبية التي كانت وراءها، إذ الفَـعَلة كانوا عناصر من مخابرات دول كبرى معروفة بالاســم والصِّـفة.
(3)
لم يكن انشغال المجتمع الدولي بحروبٍ اندلعتْ هنا أو هناك، يُشكِّل عُـذراً لمراقبٍ يشهد على ضعف جدِّية المتابعة والتفاعل لاحتواء تداعيات حربٍ ضحاياها بالملايين، وتركتْ ثالـث أكبر بلـدٍ أفريقـي يتهاوى على شفير التدمير الكامل والفـناء المقدَّر. ولا نرى عـذراً يذكر لضعف استجابة منظمات دولية وإقليمية، وَخذلانها شعب السودان في التصدِّي لكارثته الماثلة، إلَّا إنْ كانت لأطرافِ في المجتمع الدولي متنفِّـذة قناعة أنْ يُترك السُــودانيون لإفـناءِ بعضهم بعضاً إفـناءً ذاتيـاً.
أمّا الإعلام العالمي والإقليمي فأمره جِـدّ مُخجل. إذ منـذ اندلاع القتال في السُّـودان لم نشهد لأيٍّ من القنوات (كبيرها أو صغيرها) مبعوثاً أو مراسـلاً لها، أفريقياً أو عربياً، أو من أية جنسية أخرى، حضوراً لتغطية مباشرة لمجريات تلك الحرب. لم تشهد تلك الحرب متابعات حيَّـة وفورية، أسـوة بما شهدتْ حربان أخريان في غـزّة وفي أوكرانيا، وقد تزامن وقوعهما مع حرب السودان عام 2023. وقد شهدتْ هاتان الحربان مئات المراســلين، حربيين وسواهم، واستشهد منهم من استشهد، وجُرحَ من جُرح. لكن ليسَ من مبرّرٍ لأن تظلَّ حرب السُّــودان على غير ما تستحق من اهتمام. أما “سي إن إن” وهي القـناة العالمية الأولى، فلم تسمع منها عن حـرب السُّـودان إلّا لماماً.
(4)
في جانبٍ آخر، تزامنت مُجريات الحربين ووقائعها في كلٍّ من غـزّة وأوكرانيا، وكذلك حرب الـ12 يوماً بين إسرائيل وإيران، مع حرب السُّــودان. إلا أنَّ الرَّصد المباشــر بالأقمـار الصناعية الجائلة في الفضاء، لم يغبْ عنها ولا عن تغطيات مراسليها المقيمين في مواقع القتال في تلكم الحروب. غيرَ أنَّ عيون تلك الأقمار الاصطناعية ومعها قنواتها الفضائية، قد عَميَتْ تماماً، فلم تـرَ ما وقع في السُّـودان من فظـائع، إلى أنْ صوّر القتـلة أنفسهم وفي مدينة الفاشر المكلومة فظاعاتهم وتوحّشهم، وعملوا على بـثَّها من أجهـزتهم الجوّالة، فشـاهد الناس أفاعيلهم وما وقع منهم بعـد اكتساحهم المدينة (في دارفـور)، فارتعبَ العالم ممّا شــاهد من وحوش القرن الحادي والعشرين الجُــدُد، وقد تفـوّقـتْ أفاعيلهم على محارق الفـوهرر هـتـلـر في سنوات الحرب العالمية الثانية.
ستشكّل أوضاع السُّــودان الإنسانية المتردّية اختباراً قاسياً للأمم المتحدة ولضمائر مسؤوليها، ومن ورائهم ضمائر المجتمع الدولي الحاضر الحَـي
(5)
نحمد للمنظمـة الأممـية صحوتها المتأخّـرة، فاختارت دبلوماسـياً بريطانياً مِمَّن عُجـمَ عـوده وتمرّس على اقتحام المخاطر، وهو تـوم فليتشـر، ليكون وكيـلاً للأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية. اقتحـم فـور تعيينه مجاهيل السودان المُدمَّـرة، التي غـابتْ عن أنظـار الإعلام الدولي شــهوراً. زار دارفور، ولم يخـشَ نيران الاشتباكات والمُسيَّرات العمياء، فرأى بأمِّ عـينـيه البشاعة والتوحّـش والدَّمـــار. وتحدّث في مؤتمره الصّحافي الاثنين الماضي (17 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري) حصرياً عَن رداءة الأوضاع الإنسانية في السُّـودان، وعن الحاجة الماسّـة لمعالجتها. ذكر المسؤول الأممـي، صـادقاً، أنه خلال كلِّ جولاته في سـودان الكوارث، لم يلتقِ مواطـناً إلَّا وله قـتيـل في أسرته، وأنَّ الجوع القاتل يحاصر ثلثي ســكان السُّــودان. واجهه الصحافيون بأســئلتهم السّاخنة عن كيـفية وصول المساعدات الإنسانية إلى ضحايا الحرب من الأطفال والنساء وكبار السن والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصّة، إن لم تقـف طواحين الحرب، وإنْ لم يكـفَّ مموّلوها عن دعـم أطرافها، وتزويدهم بالسّـلاح القاتل من كلِّ نوع وكلّ شكل. يعلم ذلك المسؤول الأمَمـي، مثلما يعلم جميعُ ســائليه، كيفَ تكون الإجـابة، لكنه عـزف عن قولها بلسـانه، مُعتذراً بحكم اختصاصه في الشؤون الإنسانية في الأمـم المتحدة فحسب، وأنهُ لن يخوض في شؤونٍ من مسئولية آخـرين سواه.
(6)
لم يفصح فليتشــر في مؤتمره الصحفي بأكثر من ذلك، واللبيب بالتلميح يُدرك ما يعنيه الرّجل. إنَّ المعالجات الإنسـانية تقـوم عليها ضمائر حـيّـة وبتراحـم إنساني وإحساسٍ حميـم، أمّا السياسـة فمداخلها دهـاءٌ ومطــامعٌ، وتشــاطرٌ وَ”فهلـوة”، ومَكرٌ وخِسَّـة. الذين تجـرَّأوا وأجهـزوا، قبل أكثر من 60 عاماً، على زعيم الكونغــو لوممبا، وأهـدروا بعده بقليل دمَ الأمين العام للأمم المتحدة هـمرشــولـد، بتفجير طائرته في أحراج الكونغـو، هم سـاســة المطامع ودهـاة “الفهلـوة” وأخــسّ الماكرين، ومن ورائهم لاعبـون دوليّـون كبـار.
(7)
ستشكّل أوضاع السُّــودان الإنسانية المتردّية اختباراً قاسياً للأمم المتحدة ولضمائر مسؤوليها، ومَن ورائهم ضمائر المجتمع الدولي الحاضر الحَـي. نحمـد للسـفير فليتشـر الذي اختاره الأمين العام وكيلاً عنه للشؤون الإنسـانية، حضور ضميره الحَـي، وإدراكه العميـق حـدود مسؤولياته، وهو يُساهم بنيةٍ صـادقةٍ من أجل تخفيف تعاسة الشعب السُّــوداني، ذلك المحاصر من بنـيـهِ، وقـيـاداته، ومُسَـلحيه، ومليشياته، غير أنَّ وكيـل الأميـن العـام للشـؤون الإنســانية، بالتزامه حـــدود مسؤولياته، يضع الكُرة، من دون أن يقول، في ملعب مجلس الأمن، وهو ملعبٌ يؤمّـه ويديره السياسيون واللاعبون الكبـار، فهـل، يا تُرى، سيبقى ذلك الوكيل طـويلاً في منصبه الأممي؟

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى