
الدعم العربي لمشروع قرار مجلس الأمن 2803 الذي يمنح الشرعية للاحتلال الأميركي لقطاع غزّة عامين ليس غير مفهوم وغير مقبول فحسب، بل العجيب أن العرب المعنيين، بمن فيهم السلطة الفلسطينية، يصدقون أو اختاروا تصديق وعد مبهم عن “فتح نقاش إقامة دولة فلسطينية”، وليس بإقامة دولة فلسطينية، لأن هدف الوعد بيع الوهم، لا إنهاء الاحتلال الصهيوني أو الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره.
يبدو أن هناك مصلحة بتصديق الوهم؛ فالجميع يريد العودة إلى ما قبل حرب الإبادة، التي لم تنته بعد، إضافة إلى أنها تعبر عن الضعف العربي الرسمي أمام إملاءات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يهمّه تمرير مشروعه بغطاء قانوني، وكذلك حماية إسرائيل من الملاحقة القانونية، وقد تمّ، كما أن واشنطن تقيّد كل الدول العربية بقرار أممي يتناقض مع حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرّف، فالقرار الجديد سيصبح مرجعية لكل التحرّكات والمواقف القادمة.
صحيحٌ أن ترامب قد لا ينجح بتحقيق أهداف مجلسه الاستعماري المسمّى “مجلس السلام”، الذي يريد أن يجعله قيادة لربط جميع مشاريع هيمنة أميركا وإسرائيل في المنطقة، لكن إضفاء الشرعية الدولية على المجلس والقوة الدولية التي يُراد تشكيلها، يمنحانه سلطة التحكم بغزّة وأهلها، وإعادة تشكيلها بما يتناسب مع مصلحة واشنطن وتل أبيب.
التهويد مستمرّ في القدس الشرقية، ولا إدانات عربية أو دولية لغزوات المستوطنين المسجد الأقصى، تمهيداً لوضع يد إسرائيل عليه
رغم الغضب الإسرائيلي من ذكر “دولة فلسطينية” في القرار، إلا أن ترامب والمؤسّسة الأميركية أكثر حرصاً من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو على مستقبل إسرائيل وعلى المصالح الأميركية الاستراتيجية في المنطقة، فعبارة “دولة فلسطينية” هي كلمة السر لإقناع دول عربية بدخول الاتفاقيات الإبراهمية، التي نقلت التطبيع الذي تحقّق في الاتفاقيات السابقة إلى القبول بالاحتلال الإسرائيلي باعتباره حقاً تاريخيّاً استعادته الحركة الصهيونية، وإنهاء المطالبة أو الحديث عن حقوق الشعب الفلسطيني، والقبول والترحيب بالمشروع الاستيطاني الصهيوني وكأنه ليس هناك نكبة أو احتلال.
لا يعني الدعم العربي لمشروع قرار مجلس الأمن القبول بالمشروع الصهيوني، أو نظام الفصل العنصري والتهجير، لكنه قبول بخطوة كبيرة تؤدي إلى الاستسلام وقبول المشروع الصهيوني، فواشنطن لا تنتظر قراراً عربياً بمحو القضية الفلسطينية بالتراضي، لكنها تفرض واقع على الأرض، يجعل الرضوخ العربي استسلاماً كاملاً؛ فمنح مجلس استعماري السلطة الكاملة على غزّة، وإبعاد الفلسطينيين عن تقرير مصير غزّة وحياتهم، خطوة باتجاه حرمانهم أراضيهم ووطنهم ومشاركتهم في تقرير مصيرهم، فمجلس ترامب هو المرجعية، فيما تبقى إسرائيل المسيطرة فعلياً برضى أميركي، مستمرّة بالتطهير العرقي في غزّة والضفة، بينما تعيد هندسة جغرافيا غزّة وديمغرافيتها، وتحدّي من يستطيع البقاء، ومن يواجه تهجيراً قسرياً.
فأميركا دعمت وشاركت في فكرة (وتنفيذ) تقسيم غزة إلى منطقة حمراء، وهي التي توجد فيها حركة حماس وفقاً لواشنطن وتل أبيب، ومنطقة خضراء، أي خالية من “حماس”، لتسهيل الاغتيالات الإسرائيلية، فالمطلوب إنهاء الحركة وأي وجود لها في غزة.
لم تتخلّ أميركا يوماً عن سياساتها الاستعمارية، لكن من كان يظن أن الدول العربية ترضى صراحةً بوصاية أميركية على غزّة؟
لم تكتفِ واشنطن بذلك، بل شكلت غرفة عمليات ومراقبة أميركية إسرائيلية مشتركة تشرف على كل شيء من تجسّس وتعقب أمنيين، لتمكين إسرائيل من تنفيذ الاغتيالات المستمرّة لعناصر حماس، وأعدّت مخطّطاً لبناء مجمّعات سكنية لنقل الغزّيين القاطنين في المنطقة الحمراء إلى الخضراء، لجعل الأولى مسرحاً لإبادة جسدية لأعضاء “حماس” والمقاومة، وذلك كله علناً. بل دعا الجيش الأميركي الصحافيين والدبلوماسيين إلى زيارة “غرفة التنسيق” وفقاً للتسمية الرسمية، للتفاخر بالقدرات التكنولوجية المتقدّمة والإعدادات لتكملة عملية تدمير شعب تحت الاحتلال الإسرائيلي عقوداً، والآن أصبح احتلالاً أميركياً إسرائيلياً يتمتع بشرعية دولية بموافقة عربية ومباركة غربية؟
الاحتلال الإسرائيلي، وفقاً للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن، غير شرعي، لكنه تحت القيادة الأميركية، أصبح شرعيّاً؛ فالوجود الأميركي و”مجلس السلام” يجعلان ما هو مخطّط له مقبولاً علناً، ولا نتحدّث هنا عن مخطّطات سرّية، مقابل كلمات مبهمة بقبول أميركا ببدء نقاش لإقامة دولة فلسطينية، غير معروف مكانها، هذا إذا تبقّت أراضٍ يوجد فيها فلسطينيون في غزّة وإذا تبقّت أراضٍ لا تبلعها إسرائيل وتهجر أهلها في الضفة الغربية.
أما القدس الشرقية، فالتهويد مستمرّ، ولا إدانات عربية أو دولية لغزوات المستوطنين المسجد الأقصى، تمهيداً لوضع يد إسرائيل عليه، والجميع مشغولون باحتواء وضع غزّة على حساب حياة أهلها ومستقبلهم، فالمهم المضي إلى الأمام، لا نعرف إلى أين، فالوهم مريح للأنظمة ومبرّر لإسكات الشعوب.
نجح ترامب فيما لم ينجح رؤساء أميركيون غيرُه، وإن لم يكن لدى من قبله مثل هذه الأحلام الجهنمية. لم تتخلّ أميركا يوماً عن سياساتها الاستعمارية، لكن من كان يظن أن الدول العربية ترضى صراحةً بوصاية أميركية على غزّة؟… وصاية علنية، ليس بهدف نقل حكم غزّة إلى الفلسطينيين، بل لتحويلها مشاريعَ استثمارية وتدمير مجتمعها وهويتها الفلسطينية، استيلاء غير شرعي بغطاء شرعي، نتيجة لتخاذل مستمرّ، تواطؤ سري وعلني وعقود من قمع الشعوب.
مجلس ترامب الاستعماري ينظر إلينا أهدافاً وليس شعوباً، فلتكن غزّة عنوان معركة الحقوق
قد تعتقد بعض الحكومات العربية أن قبولها يقيها خطر إسرائيل، مع أن الأخيرة أشد وضوحاً من أي وقت مضى في عدم احترامها سيادة أي دولة عربية، ولن تنجو حتى الدول الموقّعة اتفاقيات مع إسرائيل، أو التي تتعرّض لضغوط للدخول في اتفاقيات معها. فالمجازر الإسرائيلية في لبنان والتوسّع في سورية ولبنان لا تهدف إلى إجبارهما على اتفاقيات تطبيع، بل لفرض هيمنة إسرائيل وسيطرتها على أجزاء من أراضيهما. فإسرائيل لا تهدف إلى إنهاء حالة حرب ومنع أي مجموعة مقاتلة أو مقاومة من الهجوم عليها، بل تريد قبولاً باحتلالها مناطق في جنوب لبنان وفرض نفوذ ووجود لها في مناطق واسعة من جنوب سورية، ولن يكون ذلك نهاية الاعتداءات، وما نراه في غزّة نموذج لما تعمل عليه إسرائيل في جنوب سورية وجنوب لبنان.
المهم التخلص من أوهام الوعود بإقامة دولة فلسطينية، أو اتفاقيات تجلب السلام للبنان وسورية، فقد دخلنا في مرحلة لا ترضى فيها إسرائيل إلا بالرضوخ التام، لكن ذلك لا يبيح للفلسطينيين أو السوريين أو اللبنانيين القبول، فالتخلّي عن الحقوق هو الهزيمة. … فلتكن، إذن، بداية لمعركة حقوقية، دون خوف أو وجل من التهديدات الأميركية. كم محزن هو الخوف من إغضاب أميركا! مع أن أميركا بقوتها وجبروتها تخشى خسارة المعارك الحقوقية، فرغم غطرسته وغروره، يفهم ترامب خطر معركة المطالبة بالحقوق على إسرائيل، وهو فعل وسيفعل الكثير لحمايتها من مسؤولياتها أمام المحاكم الدولية. لذلك اتجه إلى مجلس الأمن، لإعطاء شرعية لتملكه غزّة، وفي هذا ضربة كبيرة لنا. لكنها ليست نهاية مسيرتنا إلى التحرّر؛ لنبدأ دائماً بالتمسّك بالحقوق، ولنرفض سلب أهل غزّة حقوقهم وحياتهم، فمن لا يدافع عن حقوق أهل غزّة المسلوبة، فلن يستطيع الدفاع عن حقوق أيٍّ من الشعوب العربية المستهدفة من إسرائيل.
… مجلس ترامب الاستعماري ينظر إلينا أهدافاً وليس شعوباً، فلتكن غزّة عنوان معركة الحقوق.
المصدر: العربي الجديد






