الفصل الثاني: العودة إلى المرج – بين النهرين والذاكرة الطريق إلى المرج كان رحلة عودةٍ إلى الجذور، لا إلى الراحة

جمال حرب

من مرفأ بيروت، اتجهت العائلة نحو الداخل، صعودًا باتجاه البقاع. كلما ابتعدوا عن البحر تبدّل الهواء ورائحة الأرض، وصارت الجبال تطلّ عليهم من بعيد كأنها تفتح ذراعيها لاستقبال العائدين.
وحين لاح لهم السهل الفسيح الممتد بين جبلين شامخين، شعر الوالد حسين الشيخ حرب أن قلبه عاد ينبض من جديد.
هناك، في بلدة المرج في البقاع الغربي، ستبدأ مرحلة جديدة من حياة عمر حسين حرب — مرحلة الطفولة الريفية والتعليم الأول، حيث ستتفتح في وعيه البذور الأولى للانتماء والكرامة.
المرج: بلدة بين نهرين
تقع بلدة المرج في قلب سهلٍ رحبٍ بين نهرين يحيطان بها كذراعين يحتضنان الأرض.
من الشرق يجري نهر الغُزيل، الذي ينبع من منابع شمسين في بلدة عنجر، ويُعدّ أحد روافد نهر الليطاني، فينساب ماؤه صافياً بين البساتين والحقول، يغسل وجه الأرض كل صباح ويروي جذور الحياة.
أما من الغرب، فيمرّ نهر الليطاني، أطول أنهار لبنان وأغزرها، ينبع من رأس بعلبك ويجري عبر سهل البقاع متعرّجًا بين القرى، مارًّا بالمرج حيث يقسم أراضيها الزراعية إلى قسمين، ثم يتابع مجراه نحو الجنوب ليصبّ في البحر عند القاسمية شمال صور.
وفي نهاية مجرى الغُزيل، عند أطراف الأراضي الزراعية، يلتقي النهران في موضعٍ يسميه الأهالي ملتقى النهرين، في منظرٍ يشبه عناق الماء بالتراب والسماء.
كانت المرج تمتد على نحو ثمانية آلاف دونم من الأرض الخصبة، تُزرع بالقمح والشعير والعدس والكروم.
أما البيوت فكانت جميعها من الطين، متقاربة كالأهل الذين يسكنونها، وسقوفها من القصب والتراب.
لم تكن هناك كهرباء، وكان الضوء يأتي من الفوانيس والكاز، والتدفئة من المواقد التي يجتمع حولها الأهالي في الليالي الباردة، يتبادلون الحكايات بينما تعصف الرياح وتغطي الثلوج السقوف.
كانت الحياة بسيطة قاسية، لكنها عامرة بالدفء الإنساني، وبالإيمان بأن الخير مقيم في الأرض ما دام فيها من يزرعها ويحبّها.
نهر الليطاني: الماء والسيادة
لم يكن نهر الليطاني مجرد مجرى مائيٍّ في أرض لبنان، بل كان شريان الوطن وسرّ خصبه، وموضع أطماعٍ منذ زمن الانتداب الفرنسي.
فقد رأت فيه فرنسا خزانًا للطاقة والريّ، وسعت لاستثماره ضمن مشاريع تخدم مصالحها الاقتصادية في البقاع وجنوب لبنان.
وبعد الاستقلال، صار الليطاني محورًا لمشاريع وطنية أبرزها مشروع الليطاني الكبير في خمسينيات القرن العشرين، لتوليد الكهرباء وريّ آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية.
لكنّ النهر ظلّ أيضًا رمزًا للسيادة الوطنية، إذ امتدّت إليه أطماع إسرائيل منذ قيامها، بحجة “الحاجة إلى المياه”، ما جعله حاضرًا في خطاب المقاومة والتحرير، رمزًا للماء الذي لا يُستباح
الليطاني في ذاكرة عمر
في طفولته، لم يكن عمر يدرك أبعاد تلك المعاني، لكنه كان يشعر بقداسة النهر كأنما فيه روح الوطن.
كان يذهب مع أقرانه إلى ضفة الليطاني مع طلوع الربيع، يجلسون على الحجارة الملساء والماء ينساب أمامهم بسرعةٍ متلألئةٍ تحت الشمس.
وفي الصيف، كانوا يسبحون في مياهه الباردة، يطلقون الضحكات التي تمتزج بصوت الماء، في مشهدٍ بريءٍ من الفرح الريفي.
لم تكن شبكة المياه تصل إلى بيوت البلدة بعد، فكان أبناء المرج يجتمعون لجلب المياه من النهر إلى المنازل للطهي والغسيل، ينقلونها على الحمير والبغال في جرارٍ فخارية أو صفائح معدنية.
كان العمل شاقًا، لكنه مشترك، تتقاسمه الأيدي والقلوب. وكان الأطفال، ومنهم عمر، ينتظرون دورهم ليغسلوا أيديهم في الماء البارد، أو يملأوا جرّة صغيرة يفاخرون بها أمهاتهم.
وفي أحد الأيام، جلس عمر على الضفة، وصنع قاربًا صغيرًا من الكرتون، يشبه القارب الذي حملهم من يافا إلى لبنان.
وضعه برفقٍ في مجرى الماء وراح يتابعه بعينيه الحالمتين، معتقدًا أن القارب سيواصل طريقه حتى يصل إلى شواطئ يافا.
كان ذلك الحلم الطفولي امتدادًا لأول جرحٍ في ذاكرته، ولبذرة الحنين التي لن تفارقه أبدًا.
المدرسة الرسمية الأولى في المرج
تضم المدرسة الرسمية الأولى بالمرج غرفتين من الطين، وكان مديرها الأستاذ جورج عون والد النائب الحالي سليم عون، رجل حازم وبسيط، يجمع بين منصب المعلم، المدير، الناظر، والمربي في شخص واحد.
درس عمر فيها لمدة سنتين، وكان يتعلم القراءة والكتابة والحساب بأسلوب التلقين الكلاسيكي.
لاحقًا، جاء الأستاذ شريف عراجي، الذي كان نشيطًا جدًا، فازداد عدد التلاميذ، مما اضطره إلى استئجار غرفتين إضافيتين للمدرسة.
وأصبح يساعده في التعليم امام البلدة الشيخ فوزي حرب رحمه الله، الذي كان يعطي التلاميذ الدروس الدينية.
في تلك الأيام، لم تكن الفتيات يرتدن المدرسة، إذ كان الأهالي يخشون أن “تتعلم الكتابة فتبدأ بالمراسلة”، كما تقول الجدات.
ويحفظ عمر ذكرى من زملائه، ومن أبرزها حادثة حصلت مع صديقه منور جراح (أبو محمد):
دخل عليهم الأستاذ شريف عراجي وطلب من التلاميذ أن ينشدوا عتابة، الشعر الشعبي المعروف.
رفع منور جراح يده وقال:
> “أوف أوف قاعد وقعيد ,قاعد
وقعيد زهرة الورد في الفنجان قاعد،
ولو بعرف يا أستاذ شريف وين قاعد، لبوس الأرض وارجع للسما.”
تعالت ضحكات التلاميذ وتصفيقهم، وكان عمر حرب يصفق بحرارة لصديق الطفولة، حافظةً تلك اللحظة كدرسٍ في الفرح قبل أن تكون شعورًا بالأدب الشعبي.
مدرسة المقاصد الخيرية
بالتوازي، درس عمر في مدرسة المقاصد الخيرية في دورة صيفية، رغم أن الصيف كان موسم اللعب والسباحة في النهر.
وفي إحدى المرات، جاء ابن عمه مصطفى الشيخ حرب – رحمه الله – وكبره بخمس سنوات، فافتعل مشكلًا مع المدير، وأخرج عمر من الصف.
ومن ذكرياته في المدرسة، يذكر رفاقه: عمر حليمة، سمير جراح، منور جراح، عبد الرحمن زين الدين، ودياب زعرور.
وكان التلاميذ ينقسمون إلى فريقين متنافسين، لكلٍّ منهما شعاره و”قائده”، وكانت المنافسات تنتهي غالبًا بالضحك واللعب الجماعي، في مشهد يملؤه الحماس والمرح.
الانتقال بين المراحل التعليمية
حين أنهى دراسته الابتدائية في المرج، انتقل إلى برالياس لمتابعة المرحلة المتوسطة، وهناك بدأ يختبر تحديات جديدة، مثل لعبة الحلجتين وقفزة التي كانت من ألعاب الشباب في القرية، ووقعت له حادثة دفعه فيها أحد أبناء القرية ما تسبب بمشكلة كبيرة، فاضطر والده لنقله إلى تعلبايا.
هناك أكمل علومه المتوسطة، قبل أن ينتقل لاحقًا إلى بحمدون ليتابع دراسته الثانوية في المعهد العربي الذي كان مديره خليل خير الله، وهو من المربين الذين تركوا أثرًا عميقًا في الطلاب.
طفولة تُزهر وعياً
في تلك البيئة الريفية المتواضعة، تشكّلت أولى ملامح وعي عمر حسين حرب.
كان يرى في تعب الفلاحين صمودًا، وفي تراب المرج كرامة، وفي النهر الممتد أمامه وعدًا بأن الحياة تجري رغم كل ما يُراد لها أن تتوقف.
هناك، بين الغُزيل والليطاني، وبين المحراث والكتاب، بدأت ملامح المناضل تتكوّن في داخله دون أن يدري.
فالماء الذي كان يحلم أن يعود عبره إلى يافا، صار في قلبه رمزًا لكل عودةٍ مؤجلة،
والمرج الذي احتضنه طفلًا سيحتضن لاحقًا رجلًا عاش للوطن لا للأضواء.
هكذا يصبح الفصل الثاني متسلسلًا وشاملاً لكل أحداث الطفولة المبكرة، المدرسة، النهرين، اللعب، والشقاوة، والانتقال بين المراحل التعليمية، مع إبقاء الباب مفتوحًا للجزء السياسي والوعي المبكر الذي بدأ في بحمدون لاحقًا.
الحلقة الثالثة

المصدر: صفحة جمال حرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى