
التطورات الكبرى والحديثة ومابعدها فى مجالات الفلسفة، والعلوم الاجتماعية، والأدب ارتكزت على ثقافة السؤال لا ثقافة الإجابات الجاهزة، ولا المقولات الدينية، والبنىُ العقائدية، ومفاهيم الإيمان والعقيدة، وإنما على الأسئلة التى فتحت الأبواب أمام فحص، وتفكيك النصوص والتأويلات، والسرديات الوضعية حول المقدس، ومفاهيم الألوهية، والنبوة، وأسئلة الوجود، والحياة والمعنى، والموت. هذه الأسئلة، وغيرها هى التى ساهمت فى التحول من المجتمعات ما قبل الحديثة إلى عالم الحداثة، حيث سلطة العقل النقدى، والشك فى المسلمات سعيا وراء الوصول إلى الحقائق النسبية وليست المطلقة، وتأكيد الإيمان العقدى الفردي –أيا كان- أو الانفلات منه إلى مساحات أخرى، تؤسس للعقلانية، ثم التمايز والانفصال بين العقدى، والإيمانى الفردي إلى النماذج العلمانية مع الدولة الأمة، فى ظل تطورات الرأسمالية الغربية، وتوحيد المجتمعات، والدول، والأسواق.
التطورات المختلفة فى العلوم الاجتماعية، والفلسفات كان هاجسها الأكبر الأسئلة أيا كانت في مجالات الحياة المتعددة والمختلفة وتناقضاتها ، والأسئلة الوجودية ، ومآلاتها حول الوجود والعدم، وفق السؤال الوجودي إلى البنيوية، وما بعدها، وما بعد الحداثة، وما بعدها، حتى الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي التوليدى، والتغيرات فائقة السرعة فى مرحلة الإناسة الروبوتية.
هذه التغيرات الكبرى التاريخية، كانت ثقافة الأسئلة هى المحرك وراء عمليات إبداع الكتابة فى الفلسفة والرواية والقصة والمسرح والشعر حتى مرحلة قصيدة النثر وما بعدها إلي القصيدة والكتابة الومضة .
ثقافة السؤال كمحرك للإبداعات النظرية، وفى المقاربات المنهجية التطبيقية، تأسست على السؤال والأسئلة، والتجربة الوجودية للمبدعين فى كافة المجالات، فى ظل حرية العقل النقدى، والبحث السوسيولوجي، والفلسفى، بل والقانوني، والأدبي.
كان الكاتب والفيلسوف والمبدع، والشاعر، وكاتب المسرح، مهجوسين بالأسئلة فيما وراء التطورات التقنية، والطبيعية، والسياسية فيما وراء الظواهر التى تكشف عنها هذه التطورات ومجالاتها المختلفة، والأهم فى انعكاساتها علي وداخل أنسجة تفاصيل الحياة اليومية، وتفاعلاتها.
من هنا كانت الإبداعات الفلسفة والنظرية، وفى السوسيولوجيا فى مختلف جوانبها، هى تعبيرات عن الأسئلة التى تتوالد من بين أعطاف بعضها بعضًا ، وتنمو ،٩ والأهم انفجار هذه الأسئلة فى كل مرحلة من مراحل تطور العالم الحديث وما بعد بعده . بعض الأسئلة الماسة بالشرط الإنساني الوجودي، وبعضها الآخر، يتصل بالعلاقة المعقدة بين الإنسان، والتطور التقنى، ومألاته من حيث قدرات السيطرة الإنسانية على التطورات التقنية والآلات، والعلاقة بين الإنسان، وبين البيئة والتحول من السيطرة عليها، واستغلالها إلى تمردها البيئى، وكائناتها غير المكتشفة على عمليات اعتصارها فى ظل التطورات الرأسمالية، ثم النيوليبرالية، وأيضا كانت فى ظل الأنظمة الشيوعية المنهارة ، واستغلال كلا النظامين –فى ظل الحرب الباردة وما بعدها- للطبيعة ومواردها دونما اهتمام بآثار هذا الاستغلال والتوظيف المفرط لمواردها فى كلا النظامين علي حياتنا ، ثم هيمنة النيوليبرالية الرأسمالية الوحشية على عالمنا.
كان العقل النقدى، والإبداعى الحر يحلل ويفكك الظواهر والبنىُ الاجتماعية، والسياسية، والفكرية، والتقاليد، وذلك من خلال الأسئلة، سعيا وراء أحداث التجديدات فى الأفكار والقيم، وتحطيم الإعاقات البنيوية التى تحول دون تقدم المجتمعات الغربية فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، من خلال الأسئلة، والعقل الناقد الحر الشجاع الذى يواجه المجتمع، والسلطة السياسية الحاكمة، ويكشف عن اختلالاتهم أيا كان الثمن الذى يدفعه الكاتب والفيلسوف، والمثقف، ورجل القانون، والشاعر، والروائي، والقاص، والمسرحى والفنان التشكيلى.
الأسئلة ابنة العقل الحر الخلاق والمستقل الذى واجه الملوك، والبابوات، وفتح الأبواب أمام الذى والإقطاع ، وفتح الأبواب أمام إقرار القانون والعدالة وقيم المساواة، وفرض القيود على السلطة من هوبز وجان جاك روسو، ولوك مروراً بثورات كرومويل، والثورة الفرنسية، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن، والتطورات السياسية الصاخبة وصولا إلى تطور النظم الليبرالية التمثيلية، والانفصال بين السياسة، والأديان ومذاهبها، وتطور الفكر اللاهوتى الغربى، بدءًا من مارتن لوثر، والمذهب البروتستاتنتي، وحركية، وتطور اللاهوت ، وتغير بعض الفكر اللاهوتي الكاثوليكي مع مجمع الفاتيكان الثاني، والانفتاح على الأديان الأخرى أيا كانت، كأحد أصداء الحرب الباردة.
لا شك أن أسئلة العصر، وفلسفاته الوجودية، والماركسية، والبنيوية، والحداثة العليا –وفق هابرماس، أو ما بعد الحداثة وفق جان فرنسوا ليوتار- هى التى حركت العقل اللاهوتى الغربى، والعقل الإنسانى، عبر الأسئلة الكبرى التى وسمت أزمنة هيمنة السرديات الكبرى، والإيديولوجيات الماركسية، والليبرالية، ونظم رأسمالية الدولة الوطنية فى الدول الأخذة فى النمو ما بعد الاستقلال، وعالم التحرر الوطنى، والاستقلال، ومفاهيم السيادة الوطنية.
أعاقت النظم الاستبدادية والتسلطية فى العالم الثالث، العقل الحر وأسكنته في وسّن معتقلات الضمير، والسياجات الدينية والسياسية باسم الوطنية والأمن، وقيم المجتمعات والأخلاق الموروثة والماضوية، للحيلولة دون طرح الأسئلة على العقل الجمعى، من العقول الحرة، وذلك لتفكيك أصفاد المجتمع، وتحريره من الأوثان السياسية والطبقية، ومن توظيف السرديات الوضعية السياسية حول الأديان، لقمع العقل النقدى الحر والمستقل والمجتمع من قبل السلطان الملكى والجمهورى المستبد، والتسلطى، وإزاء الشعبويات السلطوية كظل لله سبحانه وتعالى وتنزه على الأرض. هذا التأليه والقداسة للسلطان الجمهورى والملكى والمشيخى المستبد والتسلطى، وسم السياسة، والخطابات السياسية والدينية، وقرارات الحكام فى المنطقة العربية ما بعد الاستقلال، وكانت معتقلات العقل والضمير والحرية هى أخطر ما قامت به نظم الحكم الفردي فى عالمنا العربى، وظهرت فى الأنظمة الجمهورية بأسم إيديولوجيا حزب البعث العربى الاشتراكى فى سوريا، والعراق، والسودان وليبيا، وتونس، والجزائر، وفى النظم الملكية والأموية والمشيخية ومصر الجمهورية، وكلها كانت إيديولوجيات هجينة، مفارقة للواقع التاريخى والموضوعى، وكان العقل النقدي الحر للمفكرين هو مصدر رهابُ الخوف لأنظمة الحكم الفردي التى قامت بإغلاق بل ومصادرة المجال العام السياسى، وتلاعبت بسردياتها السياسية الدينية، كمصدر رئيس للشرعية السياسية واستخدمته فى وصم العقل النقدى الحر وخروجه علي السراط الديني والسياسي السلطوي المستقيم ! حينا، وبأسم الوطنية، وإعداء الوطن حينا آخر.
كان تأميم الدين وتأويلاته، يستخدم لإعاقة ثقافة الأسئلة التى تحرك العقل الجمعى، وتفتح الأبواب أمام الهدم الخلاق للقيم والتقاليد التى تعرقل تقدم المجتمعات العربية، وتفتح الأبواب واسعة أمام تكريس قيم العمل الجاد، والخلاق، والمسئولية، والمبادرة الفردية والجماعية المستقلة من أجل تكوين وطنيات راسخة، وليست هشة، من خلال سياسات التكامل الوطني العابرة للمكونات العرقية والقبلية والعشائرية والعائلية فى تركيبة المجتمع، وتؤدى إلى سلطان القانون العادل والمساواة والمواطنة وإلى حالة من ترسيخ قيمة العدالة، فوق التمايزات الاجتماعية، وقانون المكانة.
من هنا أدى غياب ثقافة الأسئلة، ودولة القانون والحق، والمواطنة، والمساواة، والحريات العامة والشخصية، إلى تنامى حركات الإسلام السياسى الراديكالية والسلفية، وقمع الأسئلة والعقل المتسائل الحر، من ثم ترتب على ذلك تنامى معتقلات العقل والحرية والسؤال ومعها سياسات القمع والطغيان والتسلط من ثم لم تشكل أحزاب سياسية جادة ومتعددة السياسات والبرامج، وتعبر عن قواعد اجتماعية مختلفة، وشعبية، وعن مصالحها الاجتماعية فى بيئات سياسية حرة، ومجال عام مفتوح تجاه التعدد والتجديد فى الأفكار، والعمل المسؤول، وتكرس الكفاءة، وتكافؤ الفرص، من خلال سيادة القانون فوق رؤوس جميع المواطنين، والحكام، وسلطات الدولة.
أدت ثقافة الطغيان، والتسلط السياسى والدينى والقانونى، إلى ثقافة الفوضى، وقانون المكانة والأعراف، على قانون الدولة فى عديد البلدان العربية، وانتشار العنف المادي، واللفظي، وبأسم الدين، والأخلاق والوطنية، والأمن القومى من قبل السلطات الحاكمة.
أدت الثورة الرقمية إلى طغيان الفوضى فى الأفكار، وحالة من التوهان التاريخى -وفق أنور عبدالملك -، والحروب الهوياتية، وتفكك قيم الوطنية، والتسامح والمساواة، و باتت مؤثرة على كافة مجالات الحياة الفعلية، وأعاقت تطور المجتمعات العربية، وأدت إلى نزاعات بين الشعوب العربية من خلال ثقافة الكراهية للآخر فى داخل كل بلد عربى، وإزاء الشعوب العربية الأخرى.
حالة من التوهان، والتفكك، والنزاعات والنظم التسلطية بعضها بعضا، وبين بعض أبناء الشعوب العربية، فى مساجلات خشنة ناتجة عن انهيار الفكرة العربية الثقافية الجامعة، لصالح هويات مفككة ومتصارعة، ومحاولة مراكز الثقل المالى الريعية أن تلعب أدواراً من خلال علاقاتها وتحالفاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية دعماً لأمنها ودفاعاً عنها ضد إيران، ومع إسرائيل جسراً لها مع جماعات الضغط الإسرائيلية فى أمريكا.
تحولت النزاعات بين بعض أبناء الشعوب العربية تجاه بعضها بعضا على الحياة الرقمية، بديلاً عن سعى هذه الشعوب نحو الحرية والمساواة والتقدم، والإبداع.
المصدر: الأهرام


