تجليات العنف البنيوي للإدارة السورية الجديدة

عبد الله تركماني

يواجه السوريون تحدياً وجودياً، من خلال إدارة حكومتهم الانتقالية لفوضى التوحش، أي إدارة حالة الفوضى منذ أحد عشر شهراً، طبقاً لكتيب ” إدارة التوحش ” لمؤلفه أبو بكر ناجي، الذي نصحهم بأن يحسنوا التوحش إلى أن ” تستقر الأمور لإقامة الدولة الإسلامية “. إذ تُعتبر شيطنة المكوّنات الطائفية تمهيداً لتحويلهم ” أهل ذمة “، بالتزامن مع العودة إلى الماضي ” الهوية الأموية “، بما يؤدي إلى تعميم الأحقاد الطائفية وإضعاف الهوية الوطنية السورية الجامعة، كما حصل في مجزرتي الساحل والسويداء والاعتداءات الأخرى في عدة مناطق.
ويبدو واضحاً أنّ تخبط الحكم الجديد بدأ يظهر مع انتشار السلوك الطائفي منذ بدايات التغيير في 8 كانون الأول/ ديسمبر، من خلال مقولة ” من يحرّر يقرّر “، وقرارات ” مؤتمر النصر “، وما جاء بعدهما من إجراءات تعتمد على أهل الولاء وتبعد أهل الكفاءة، والأخطر هو إذلال أغلب السوريين من خلال القتل والاختطاف واقتحام الأعراس، والتدخل في خصوصيات أفراد المجتمع وفرض أنماط جديدة لحياتهم.
وتشير الإجراءات والمعطيات السابقة إلى فشل الإدارة في حماية مواطنيها، والأخطر أن تنطلق من اعتبار سوريا غنيمة حرب لـ ” أخوة المنهج “، الذين يخطفون النساء ويجبرهن على إنكار ما تعرضن له، ويستولون على السيارات وشقق السكن، ومطالبتهم بفدية لإطلاق سراح مختطفيهم من النساء والرجال والأطفال، بل يقتلون بعض غنائمهم. ويتم كل ذلك تحت حجة أنّ الفاعلين هم ” فصائل منفلتة “، بما يعبّر عن عدم مسؤولية إدارة المرحلة الانتقالية عن أرواح ومصالح المواطنين السوريين.
إنّ قادة المرحلة الانتقالية يشككون في احتمال تطبيق مبادئ العدالة على ” أخوة المنهج “، والعمل الجدي على منع ازدهار خطاب التطرف، بل التدخل في الحريات الفردية والعامة للمواطنين، بذريعة ” الخصوصية الثقافية “، التي تراها قوى التطرف وأجهزة الأمن في ملبس ومشرب السوريين والسوريات، وكأنّ هذه الحريات هي مصدر تهديد السلم الأهلي وليس قوى التطرف والإرهاب. التي تخطف النساء والأطفال، خاصة من الطائفتين العلوية والدرزية، بما يخلّف آثاراً مدمّرة على وحدة الشعب السوري. إذ وفق تقارير حقوقية موثّقة منها مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، إن نحو 100 شخص، نساء وأطفال ورجال، اختطفوا أو اختفوا في سورية منذ مطلع العام. وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان (تقرير تموز/يوليو 2025)، فقد تم توثيق أكثر من 120 حالة خطف خلال الأشهر السبعة الأولى من العام، غالبيتها في ريفي اللاذقية وطرطوس، وبعضها ارتبط بخلفيات انتقامية أو طائفية، في ظل عجز واضح للأجهزة الأمنية عن ضبط الوضع أو محاسبة المتورّطين. في حين أنّ إدارة السلطة تصر على الإنكار بدل أن تتحمل مسؤوليتها عن حماية المواطنين، وعدم التهرّب من العقاب.
في حين أنّ المنظمات المختصة في هيئة الأمم المتحدة وجهت عدة رسائل إلى الحكومة المؤقتة حول اختطاف النساء، وقد أكدوا على ضرورة حمايتهن من آثار الخطف على مجتمعاتهن. كما أكدت منظمة العفو الدولية، في تقريرها الصادر في تموز/يوليو، عن تلقيها بلاغات عن اختطاف فتيات ونساء من اللاذقية وطرطوس وحمص وحماه، أغلبهن من الطائفة العلوية. بل أنّ اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا أشارت إلى حادثة بيع لامرأة علوية من ضمن الحالات التي حققت بها، كما أنّ بعض عائلات الضحايا تعرضوا للتهديد بسبب مطالبتهم بالمساءلة، كما أشارت إلى تعرّض الأهالي للضرب أثناء الاستجواب وإجبارهم على الإدلاء ببيانات منافية للحقيقة. بالرغم من تسجيل أكثر من 50 حالة اختفاء قسري في اللاذقية، مما دفع بعض العائلات الامتناع عن إرسال أبنائهم إلى المدارس.
وبالرغم من كل المعطيات الموثقة السابقة الذكر، في تقارير المنظمات الحقوقية المستقلة، الوطنية والدولية، جاء تقرير لجنة التحقيق التي شكلتها وزارة الداخلية، في 2 تشرين الثاني/نوفمبر، بشأن جرائم اختطاف النساء، لا ليكتفي بإنكار معاناة المختطفات بل يحوّلهن إلى متهمات وامتهان كرامتهن وإذلال أهلهن. مع العلم أن اللجنة لا تستوفي شروط الاستقلالية ولا متطلّبات الكفاءة، إذ تتكون بالكامل من موظفين في الوزارة ذاتها، والنتيجة أنّ التقرير شكل رسالة تشجيع للخاطفين بأنهم في مأمن من المحاسبة، بدل أن يطمئن الضحايا وأهلهم والرأي العام.
حيث أنّ التقرير ذكر أنّ اللجنة درست جميع البلاغات الـ 42 التي وردت إلى الوزارة، وخلصت إلى أنّ حالة واحدة كانت اختطافاً، ووصفت الحالات الأخرى بأنها ” هروب طوعي مع شريك عاطفي “، أو ” هروب من العنف الأسري “، أو ” ادعاء كاذب “، دون أن يشير إلى مجزرة الساحل وما ولّدته من احتقان طائفي، بعد سلوك الفصائل المسلحة والفزعات الطائفية. مما جعل الأجهزة الأمنية، بعد إنكارها لعمليات الاختطاف ومشاركة عناصرها في الساحل والسويداء، شريكة في العنف البنيوي الموجّه ضد المواطنين والمواطنات، مما يهدد وحدة سوريا وترسيخ مناطق النفوذ للميليشيات المختلفة، وإذلال جسد المرأة وإهانة هويتها.
وهكذا، فإنّ استعادة كرامة السوريين والسوريات يتطلب تضامن كل فئات المجتمع مع ضحايا مجزرتي الساحل والسويداء نساء ورجالاً، مهما كان انتماؤهم الطائفي، ورفض استهانة أجهزة أمن الإدارة السورية بقيم المجتمع، والخطر الأكبر هو الاستهانة بالعدالة الانتقالية، التي تقتضي محاسبة المجرمين على جرائمهم، والإقلاع عن اعتبار الآخر عدواً وليس مواطناً كامل الحقوق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى