
تدخل الحرب في السودان عامها الرابع بغطاء من الصمت العالمي عما يجري، يغذيها جشع جميع الأطراف المستفيدة منها، وتستمر أعمال العنف والدمار في تدمير البلاد، ما يتسبّب في كارثة إنسانية غير مسبوقة، وبين 44 مليون نسمة، جرى تهجير ربع السكان بسبب النزاع، ويعيش أكثر من 25 مليوناً في فقر مدقع. لقد دمّرت الحرب مدناً وقرى بأكملها، وتتعرّض بعض الجماعات العرقية للإبادة. لم تكن هذه الكارثة نتيجة المصادفة، بل كان في الوسع تجنّبها منذ فترة طويلة قبل وقوع المذبحة الجماعية أخيراً في الفاشر، عاصمة شمال دارفور، وتم اقتحام آخر مستشفى وإعدام الجرحى والعاملين في المجال الطبي. وتتزايد فظائع المجازر مع الشهادات والتقارير التي تنقلها المنظمات غير الحكومية مع سيل الصور المرعبة التي تمثل احتقاراً للكرامة الإنسانية.
تقول منظمة الصحة العالمية إن أكثر من 460 مريضاً ومرافقيهم قتلوا في مذبحة واحدة في مستشفى للولادة في الفاشر، ويمكن رؤية الجثث الملقاة في برك الدماء حول المدينة في شبح إبادة جماعية. وفي الفضاء تشير صور الأقمار الصناعية إلى مقابر جماعية من دون إجراء تحقيق دولي مستقل عن الجرائم المرتكبة ضد المدنيين، وما يرسم صورة كارثية عن الأمهات والأطفال حديثي الولادة، والنقص في الطعام والماء والأدوية واللقاحات. ويقدر أن نحو 130 ألف طفل في السودان معرّضون لانتهاكات مضرّة لحقوقهم في مشاهد يجري نشرها على شبكات التواصل الاجتماعي من القتلة أنفسهم، والنساء تم تحويلهنّ بشكل منهجي إلى ساحات قتال.
يستسلم المجتمع الدولي للأوضاع في ردات فعل متلبدة في وقت تحصل فيه الحرب في غزّة وأوكرانيا على تغطية واسعة وتفاعلات سياسية وشعبية. كأنها حرب أهلية منسيّة، ما يعني نوعاً من العنصرية، حين تسعى دول عديدة إلى تفتيت البلاد إلى دول صغيرة تحت قيادة الجنرالات للاستغلال الأفضل لمواردها. وتغطى الجرائم بكثير من اللامبالاة. لا تحظى بتغطية إعلامية، إلا بإدانات لا تتناسب مع حجم الكارثة. ما يقدّم الدليل على استراتيجية تهدف إلى القضاء على المدنيين. وتشير التقديرات إلى 160 ألف قتيل، والنساء والأطفال على وجه الخصوص عرضة لأبشع أنوع العنف. وفي وقت تستمر فيه صادرات الذهب السوداني من دون انقطاع، يعيش سكان البلاد في أسوأ مجاعة منذ نصف قرن، فيما المطلوب حماية فورية للسكان والوصول غير المعقد إلى المساعدات الإنسانية، وملاحقة مرتكبي هذه الانتهاكات من المحكمة الجنائية الدولية.
الولايات المتحدة هي الوحيدة نظرياً التي يمكنها إجبار القادة المتحاربين وداعميهم الأجانب على الاجتماع في الغرفة نفسها وتوقيع اتفاق سلام
كان يمكن للنزاع أن ينتهي لو أن هناك عقوبات دولية وفرض حظر من الدول التي تموّل الأطراف المتنازعة وتسلحها، لكن المجتمع الدولي لم يتخذ أي إجراء فعّال، بالعكس قتل الأمل الذي عكسته الثورة عام 2018، ولم يساعد في الانتقال الديمقراطي. فأصبحت دعوات رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك (2019-2021) إلى السلام جريمة، وتم اضطهاد من يطالبون بإنهاء الحرب لتتوسع أكثر في توقيت سيئ جداً، لا يشكل فيه السودان قوة استراتيجية ولا ساحة إعلامية، ومآسيه لا تؤثر على الأسواق أو تدفقات الهجرة، وتضيف عليه القوى الإقليمية تنافساتها. ما يذكر بفترة طويلة من الاستعمار العالمي على الرغم من الثورات التي قام بها الشعب السوداني.
كل الحكومات في العالم على علمٍ بما يجري. ولكن هل يستطيع أحد إيقاف المذبحة، أي أحد؟ هل يمكن أن يكون وقف إطلاق النار ممكناً، وأن تستمر الهدنة بعد حربٍ تمدّدت على مدار العام الماضي، لتصبح الأكثر تدميراً في مبارزة بين خصمين، كانا حليفين، ويتنازعان السيطرة على ثالث أكبر دولة أفريقية.
جرى قبل عقدين قمع العنف في دارفور بفضل الضغط الدولي، بما في ذلك حملة “أنقذوا دارفور”، التي شارك فيها كتاب مثقفون ومشاهير، وأدّت إلى فرض الأمم المتحدة حظراً على تصدير الأسلحة، وإرسال قوات حفظ سلام تابعة للاتحاد الأفريقي. واليوم بعد 20 عاماً، تشهد الفاشر مذبحة معلنة، تم السماح بحدوثها تحت أنظار العالم. فتعود الوحشية نفسها مع الفاعلين أنفسهم، والجرائم نفسها، والصمت نفسه ليرتفع الصوت مجدداً على نحو أوسع لوقف الحرب. ولعل الطريقة الوحيدة في إقناع الرعاة الإقليميين بوقف توريد الأسلحة إلى الأطراف المتصارعة. وتعتبر كل من قوات الدعم السريع والقوات المسلحة إلى حد ما كارتيلات كليبتوقراطية، مستفيدة من الحرب من خلال التجارة في الذهب الذي يستخدم لشراء الأسلحة والنفوذ. ما يجعل المأساة ليست حاضرة في النقاش العالمي. وحدهم المدنيون ليسوا سوى مستبعدين في الحسابات القاسية.
هناك فرصة للضغط، قبل أن تنتحر الآمال بوقف الحرب في السودان نهائياً، ومواءمة الأقوال بالأفعال، حيث يمثل إقليم دارفور “استسلام العالم” أمام العنف
فشلت محادثات السلام في لندن وجنيف وواشنطن. لكن الأمور تبدو ممكنة العام 2026، وأبدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يسعى دائماً إلى الفوز بجائزة نوبل للسلام، ونجح في تحقيق اختراقات في الشرق الأوسط، وجزئياً في التوسط في هدنة بين رواندا والكونغو، أبدى اهتماماً بصفقة سودانية. ومجرد تدوينة منه كفيلة بإحداث صدمة في مكان ما. وهو بدا أكثر انشغالاً في التصدّي لمسألة قتل المسيحيين في نيجيريا. لكنه قد يوجه اهتمامه إلى السودان أيضاً للموازنة. فالولايات المتحدة الأميركية معنية بأخبار التطهير العرقي وبجرائم الحرب، وهي الوحيدة نظرياً، (ما عادت أفريقيا تشكل رهاناً استراتيجياً كبيراً للدول الغربية بعد تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا وتحول الاهتمام الأوروبي نحو الحدود الشرقية حيث تدور الحرب الأوكرانية)، التي يمكنها إجبار القادة المتحاربين وداعميهم الأجانب على الاجتماع في الغرفة نفسها وتوقيع اتفاق سلام. لكن ما يثبر القلق هو احتمال وجود صفقة ترامبية تجارية تبقي القادة المتحاربين الكليبتوقراطيين سعداء في تجاهل المدنيين. ليست هي نفسها تسوية سلام دائمة في صالح السودان على المدى الطويل.
في المقابل، توضح الحرب ما هو أكثر إثارة للقلق استنفاذ التعددية، الأمم المتحدة المشلولة بسبب الفيتوات المتبادلة (تلاحظ الجرائم لكن لا تستطيع منعها)، ويقتصر عمل المنظمات غير الحكومية على التمويل، ويتراجع دور الاتحاد الأفريقي وراء القوى الكبرى. فالمجتمع الدولي معني بتسريع الاستقرار الإقليمي للجماعات الأفريقية، وإيصال المساعدات، وتوحيد الدبلوماسية وتعزيزها لتغطية عجز فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات على الدول المصدرة للسلاح ومن بينها الإمارات (تنفي دعمها قوات الدعم السريع بالعتاد العسكري)، أو من خلال وقف النفوذ السياسي الذي يمنح لطرفي الصراع.
هناك فرصة الآن للضغط، قبل أن تنتحر الآمال بوقف الحرب نهائياً، ومواءمة الأقوال بالأفعال، حيث يمثل إقليم دارفور “استسلام العالم” أمام العنف. ويخشى من تفاقمه في أماكن أخرى مع تصاعد التوترات في القرن الأفريقي في الحديث عن الحرب المقبلة بين إثيوبيا وإرتيريا في حرب أخرى بالوكالة بين البلدين وحلفائهما! وقد تعكس السلوكيات القائمة في الفاشر ما هو أسوأ في انحراف الحرب الأخلاقي والسياسي على نحو يصعب الخروج منه. والمطلوب قطع الطريق أمام القوى المظلمة التي تهدّد بدمار كل شيء، ولا سيما بعد التفكيك المفاجئ لعمل وكالة الولايات المتحدة للتنمية وزيادة الوفيات والأمراض مع قطع الأموال، كما حصل مع برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية والصندوق العالمي و”يونيسيف”، بما يهدّد بالخطر ملايين الأشخاص في جنوب أفريقيا والدول المجاورة في إسواتيني، ليسوتو، موزامبيق، زيمبابوي، شمال شرقي نيجيريا والصومال.
المصدر: العربي الجديد






