
في لحظة أوروبية مضطربة تتقاطع فيها السياسة مع الأخلاق، والمصالح مع الذاكرة، انعقد في باريس مؤتمر “فلسطين وأوروبا.. ثِقَل الماضي والديناميات المعاصرة”، الذي نظّمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات-باريس.
لم يكن المؤتمر فعالية أكاديمية عابرة، بل محاولة جريئة لإعادة فتح ملف ظلّ يثقل الوعي الأوروبي منذ قرن، وما يزال يرسم حدود المواقف والسياسات حتى اليوم.
وللمفارقة، وقبل أن يبدأ المؤتمر، كشف حجم التوتر الكامن في علاقة أوروبا بالقضية الفلسطينية؛ إذ قرّر كوليج دو فرانس، أحد أبرز الصروح الأكاديمية في القارة، إلغاء استضافة المؤتمر تحت ضغط مباشر من وزير التعليم العالي الفرنسي فيليب باتيست.
وقد أثار هذا التدخل الرسمي استنكاراً واسعاً من مؤسسات أكاديمية فرنسية وأوروبية رأت فيه تهديداً صريحاً للحرية الأكاديمية. وهكذا، تحوّل المؤتمر إلى حدث مضاعف: حدث علمي في محتواه، وحدث سياسي في ملابساته وما رافقه.
حين يصبح الماضي ثقيلاً على أوروبا
عنوان المؤتمر يكثّف دلالات التاريخ الأوروبي تجاه فلسطين: من إرث الانتداب البريطاني، إلى الدور الفرنسي في المشرق، إلى الدعم السياسي الواسع للمشروع الصهيوني في لحظاته الحاسمة، ليس هذا الماضي مجرد صفحات مؤرشفة، بل إرث لم يُقفل بعد، وتظهر ظلاله في كل نقاش أوروبي حول الحرب على غزة، أو الاعتراف بفلسطين، أو حتى حرية التعبير.
افتتح المؤتمر بكلمة هنري لورنس، أستاذ كرسي التاريخ المعاصر للعالم العربي في كوليج دو فرانس، ليؤكد مركزية هذا “الثقل”، فالرجل بخبرته الطويلة يدرك أبعاد العلاقة الأوروبية الفلسطينية وانعكاساتها على تشكيل الوعي الأوروبي.
أمّا الدكتور عزمي بشارة، فقد وضع في كلمته الافتتاحية الجذور الفكرية والسياسية للقضية الفلسطينية في سياقها الأوروبي، في لحظة تتصارع فيها الذاكرة الأوروبية مع الراهن السياسي، وقدّم قراءة تاريخية معمقة تُعيد المسألة الفلسطينية إلى جذورها الأوروبية؛ فـ”المسألة اليهودية” التي نشأت من تناقضات الحداثة الأوروبية جرى تصديرها إلى فلسطين عبر مشروع استعماري استيطاني لم يكن للسكان الأصليين أي دور في هندسته.
وأوضح بشارة أن الصهيونية، قبل أن تكون مشروعاً يهودياً، كانت مشروعاً أوروبياً للتخلّص من أزمات الداخل، وأن الفلسطينيين واجهوا الاستيطان دفاعاً عن أرضهم وحقهم في الوجود، لا انطلاقاً من عداء لليهود.
وأشار إلى أن إسرائيل تخسر مكانتها الأخلاقية المتخيّلة في الغرب، وأن جيلاً جديداً في أوروبا والولايات المتحدة بات يكسر احتكار روايتها، ما يضع العلاقات الأوروبية الفلسطينية أمام منعطف قد يعيد تشكيل الوعي والسياسة معاً.
الديناميات المعاصرة.. حاضر يزداد تعقيداً
لطالما كانت القضية الفلسطينية حاضرة في الاهتمام الأوروبي، لكنها اليوم باتت مرآة لارتباك السياسة في القارة. فالمشهد الأوروبي يعيش لحظة انقسام غير مسبوقة:
حكومات تضيق على أي تعبير تضامني مع الفلسطينيين.
برلمانات منقسمة بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
مجتمعات تنتفض أخلاقيًا ضد الإبادة في غزة.
إعلام يخوض معركة الرواية تحت ضغط اللوبيات.
وقد تناول المؤتمر هذه الديناميات إلى جانب دور الإعلام الأوروبي في تشكيل الوعي العام، فقد خُصصت جلسات لبحث طبيعة الخطاب الإعلامي وحدود النقد، وكيف تتعرّض التغطية الصحفية لضغوط سياسية واقتصادية، فضلاً عن نفوذ اللوبيات في تضييق مساحة السردية الفلسطينية وتهميش الأصوات الناقدة للسياسات الإسرائيلية.
وتطرّقت جلسات أخرى إلى البعد القانوني، خصوصاً دور محكمة العدل الدولية، وقرارات المحاكم الأوروبية المتعلقة بتصدير السلاح، وإمكانية محاسبة الحكومات الأوروبية مستقبلاً على دعمها غير المشروط لإسرائيل في ضوء القانون الدولي الإنساني.
هذه التحوّلات ليست منفصلة عن ثقل الماضي، بل تكشف محاولة أوروبية للهروب من أسئلة التاريخ عبر تحميل الراهن أكثر مما يحتمل، ولذا جاءت الجلسات للمؤتمر لتبحث العلاقة بين أوروبا وفلسطين منذ الانتداب وحتى اليوم، كسردية واحدة متصلة تعود إلى الواجهة مع كل حدث كبير في فلسطين.
اختبار الحرية.. إلغاء الاستضافة
لم يكن إلغاء استضافة المؤتمر مجرد قرار إداري، بل فتح الباب لسؤال جوهري: إلى أي مدى تستطيع أوروبا حماية الحرية الأكاديمية عندما يتعلق الأمر بفلسطين؟
ردود الفعل التي صدرت عن المؤسسات البحثية والجامعات الفرنسية، ومنها جمعية الجامعات الفرنسية، أكدت أن ما حدث ليس معزولًا، بل جزء من مسار يستهدف:
تجريم الاحتجاج.
التضييق على الفعاليات البحثية.
محاكمة الباحثين والطلاب المتضامنين مع فلسطين.
وناقش المؤتمر هذا التوتر داخل الجامعات الأوروبية نفسها، حيث أصبح الموقف من فلسطين معيارًا لقياس حدود الحرية داخل الحرم الجامعي.
فقد عرض مشاركون تجاربهم مع الرقابة والمنع وإسكات الأصوات الطلابية، وأشار آخرون إلى أن جامعات فرنسا وألمانيا وبريطانيا تشهد موجة جديدة من “تأديب الرأي” غير المسبوقة منذ عقود، وهكذا باتت فلسطين مرآة تكشف عمق الأزمة الديمقراطية داخل أوروبا ذاتها.
فلسطين إلى أين؟ آفاق المستقبل في المرآة الأوروبية
اختتم المؤتمر أعماله بنقاش حول مستقبل العلاقة الأوروبية الفلسطينية. ورغم أن السؤال أكبر من أن يحسمه مؤتمر واحد، إلا أن النقاش رسم ملامح ثلاثة اتجاهات:
تحول تدريجي في الرأي العام الأوروبي.
مسار مؤسساتي بطيء داخل الاتحاد الأوروبي.
تصاعد الصدام بين السلطات والجامعات.
كذلك، طرح المؤتمر إمكانية تحوّل أعمق في العلاقة الأوروبية بالشرق الأوسط، أساسه إعادة الاعتبار للقانون الدولي وحقوق الإنسان، مؤكداً أن التحول إن حدث لن يأتي من فوق، بل من ضغط الرأي العام والحركات الاجتماعية والطلابية.
من باريس إلى العالم.. فلسطين التي تكشف الجميع
تبدو فلسطين قادرة، مرة أخرى، على تعرية بنية العلاقات والسياسات والخطابات، سواء في أوروبا أو المنطقة، وما حدث في باريس قبل المؤتمر، وما قيل خلاله، يكشف أن ثقل الماضي ما يزال حاضراً، وأن الديناميات المعاصرة مفتوحة على كل الاحتمالات.
في النهاية، لم يكن المؤتمر مناسبة بحثية فحسب، بل لحظة صريحة لطرح سؤال أكبر: هل تستطيع أوروبا صياغة مستقبل جديد لعلاقتها بفلسطين، أم سيظل الماضي يضغط على قراراتها؟ بين التاريخ والحاضر، بين الواقع والمستقبل، بين الجامعة والوزارة، بين باريس وغزة.. تستمر الحكاية.
المصدر: تلفزيون سوريا






