
حقّق الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع بزيارته واشنطن كثيراً من الشرعية الخارجية؛ فهل طُوّب رئيساً لسورية؟… يحتاج التطويب سياسات جديدة تتوافق مع الرؤية الأميركية لسورية التي ليست في موقع التفاوض هنا، بل في موقع الانتقال إلى الرعاية الأميركية، وتريد واشنطن الاستقرار لهذا البلد، والانتقال الكامل إلى محورها، وهذا يقتضي من سلطة الشرع ابتعاداً عن محور روسيا، لا إنهاء وجود المحور الإيراني فقط. سيساعد الشرع نفسه في محاربة الإرهاب فعلاً، وقد دخلت سورية التحالف الدولي لمحاربته. القضية ليست تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فقط، بل أيضاً التنظيمات الجهادية الأجنبية كافّة، وكذلك السورية، وأيضاً الرؤى والسياسات السلفية في الدولة، وفي ما يخصّ سلفنة التعليم أو الجيش أو القوانين. هذا يتلاقى مع التوجّهات الدولية لدعم استقرار الحكم، ولكنّه يتلاقى أيضاً مع رؤى الأغلبية السورية في التخلصّ من أشكال الاستبداد والغلبة الدينية، والانفتاح نحو التنوّع السوري، الطائفي والقومي، وبما يدعم الانتقال نحو الديمقراطية، أو وضع الأسس لذلك الانتقال، وهو موضوع ليس هامشياً لدى السوريين أو لدى نقّاد السلطة الراهنة وداعميها في الغرب.
المدخل نحو الاستقرار يتحقّق بتبنّي دمشق سياسةَ المصالحة الوطنية وتهميش النزعات الرافضة لها
هناك الاقتصاد المعطل، وبطالة تصل إلى أكثر من 80% من الشعب السوري، وهناك تململ علوي واسع، ودرزي يلهج بالانفصال، وكردي يَعرِض نفسه شريكاً في شرق سورية على أقلّ اعتبار. والأهم أن هناك ارتياباً واسعاً من برجوازية المدن “السُّنّية”. إذن هناك أزمات كبرى، وتظلُّ مسألة المشاركة في السلطة، والدولة، الحجر الأساس في المصالحة الوطنية، وتبدأ بقضايا محدّدة: وضع خطّة وطنية للعدالة الانتقالية منذ 2011 إلى 2025، ودعوة النُّخب كافة، المُمثِّلة للمدن، إلى النقاش الدقيق في توجّهات الدولة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وفي ميادين المجتمع كافّة، ولا بدّ من مشاركةٍ حقيقيةٍ للكرد وللعلويين وللدروز، نظراً إلى ما تراكم من كوارث وطنية منذ الخلاص من بشّار الأسد، ووضع حدّ (بشكلٍ نهائيٍّ) لحملات التجييش الإعلامي ضدّ فئات سورية، والانتقال إلى نقاش هذه القضايا بوصفها أزماتٍ وطنية.
زيارة واشنطن لن تُهمّش حقوق السويداء ولا الكرد ولا سواهم، ولا يمكن التقدّم الجاد وغير القابل للانتكاس من دون وضع أسس لتلك الحقوق. إن مسألة الاستقرار في سورية قضية أساسية لدى كلٍّ من تركيا والخليج، وحتى للدولة الصهيونية، وهم يلتقون بذلك مع الإدارة الأميركية وأوروبا، ولكن أيضاً مع روسيا والصين. إن الانتقالة إلى المحور الأميركي تتطلّب سياسةً دقيقةً، وغير عدائية مع روسيا أو الصين خصوصاً، وتلبية شروطهما المتعلّقة بالجهاديين خصوصاً، الذين يعودون بأصولهم إلى هاتَيْن الدولتَيْن. وبخصوص روسيا، يجب بناء سياسة وطنية لا تضحّي بحقوق السوريين، وهو ما بدا مع زيارات رجالات السلطة لجهة أن روسيا ساهمت في تدمير سورية والمقتلة فيها، وفرض ديونٍ جائرة، ومعاهدات اقتصادية “استعمارية” تمتدّ أكثر من 40 عاماً.
ستُواجِه السلطة زملاء الأمس؛ الجهاديين السوريين والأجانب. لم يعد مسموحاً التحكّم غير المباشر في توجّهات الدولة كافّة، والاستمرار بظاهرة المشايخ مقرّرين في كل مؤسّسات الدولة. هذا يجب التخلّص منه؛ هي سياسة اعتُمدت من قبل، ولكن الآن يجب طيّها نهائياً وإشراك الخبرات السورية، وهذا ضمن شروط الانتقال للمحور الأميركي. لم تبتعد كثيراً القراءات التي تشير إلى أن سلطة دمشق تحت المراقبة والرصد الأميركي الدقيقَيْن، وإن عدم رفع قانون قيصر إشارة واضحة إلى الملاحظة السابقة، بسبب وجود كتلة سياسية وازنة أميركية رافضة للرفع، وهناك استراتيجية الدولة الصهيونية في أن تظلّ سورية دولةً هشّةً للغاية. هناك الآن تراجع هامشي صهيوني عن ذلك بسبب الضغط الأميركي، ولكنّ ذلك مشروط بحدوث تقدّم حقيقي في سياسات سلطة دمشق، تتيح أن يتحوّل التراجع إلى “أُسقط بأيدينا”، أي اعتراف صهيوني بفشل استراتيجيتهم في تفكيك سورية وتقسيمها وإبقائها هشّة. المدخل نحو ذلك يتحقّق بأن تتبنّى دمشق سياسةَ المصالحة الوطنية، وتهميش النزعات الرافضة لها، سواء في السويداء أو الحسكة. لا يوجد مدخل آخر، وهذا يقتضي التوقّف عن قضية الاستئثار بالسلطة والدولة. وبالتالي، تخطئ سلطة دمشق إن لم تراعِ تمثيل السوريين كافّة في مجلس الشعب المقبل، ولدى الشرع الإمكانية من خلال مجموعة السبعين التي سيُعيّنها في البرلمان في مقبل الأيام، أو من خلال النواب الذين سيمثلون كلّاً من السويداء والحسكة. فهل يفعل من أجل إكمال الشرعية الخارجية بشرعية شعبية، لا ثورية، واستجابة للشروط الخارجية كذلك؟
الشرعية الخارجية لا تكفي؛ لا بدّ من شرعية داخلية يُمثَّل فيها الشعب ويشارك فعلياً
لن تُشفى سورية بالاستمرار في السياسات ذاتها التي كانت استئثارية واحتكارية للسلطة. لن تُشفى بأوهام أن البيت الأبيض فتح أبوابه للشرع وأُعيد فتح السفارة السورية ورُفعت العقوبات عن الشرع ووزير داخليته، وأن ذلك نهاية “التمرّد” الكردي أو الدرزي أو أصحاب المشاريع العلوية الانفصالية، وليس سليماً القول إن المسيحيين أو الإسماعيليين في صفّ السلطة. هذا تفكير غير واقعي، وبراغماتيته فاشلة. إن الانتقال إلى سياسات واقعية تنطلق من أزمات الواقع هو حجر البناء في النهوض، ولا يغيّر من هذا كلُّ الشرعية الخارجية، ولهذا يُشار إلى ضرورة الشرعية الداخلية، وهذه لن تُؤتى بالغلبة، بل بأن يتمثّل الشعب ويشارك، وبالتالي يُعطي الثقة للسلطة.
هل ستستطيع سلطة الشرع تغيير سياساتها؟ هل تفكّر بهذا التغيير من أصله؟ هناك رأي يؤكّد أن الشرع بدأ بالفعل التغيير منذ وصوله إلى دمشق، وهناك من يقول قبل ذلك. الاستئثار بالسلطة عبر “مؤتمر النصر” العسكري والحوار الوطني المسلوق والإعلان الدستوري الذي كرّس السلطات كلّها بيد الشرع، والشكل الذي تمت فيه عملية تعيين أعضاء مجلس الشعب، يشير إلى أن التغيير لم يكن متوافقاً مع التأسيس للدولة الجامعة، وغابت عنه التشاركية الشعبية، ومن المحافظات كافّة، وليس متوافقاً مع شروط (حكومة تمثيلية، مشاركة الأقليات، أسس وطنية للجيش وسواها) الانتقال إلى المحور الأميركي والغربي بعامة، وهو ما تتبناه آراء نقدية وازنة. وبالتالي، هناك خيارات واضحة أمام سلطة الشرع، فهل ستتغيّر؟
المصدر: العربي الجديد






