السوريون من اعتياد السلطة إلى اعتياد السياسة

د. طلال المصطفى

رغم التحول السياسي الجوهري الذي شهدته سوريا بعد سقوط النظام الأسدي 8 ديسمبر 2024 ، ظلت النخب السياسية والاجتماعية السورية عالقة في أنماط تفكير وسلوك ترسخت عبر عقود من الحكم السلطوي الاستبدادي.
وتتمثل في استمرار ما يمكن تسميته بـ«الاعتياد السياسي»؛ أي نمط متصلب في التعامل مع السياسة، سواء على مستوى الولاء للنظام أو المعارضة له، وهو ما يقف عقبة أمام بناء فضاء سوري عمومي حر وتطوير ثقافة سياسية ديمقراطية متجددة.
الاعتياد السياسي واستقرار المواقف من دون تحليل
عقب سقوط النظام الاسدي، شهدت سوريا مرحلة من إعادة ترتيب المشهد السياسي، إلا أن البنية العامة للانقسامات السياسية والمجتمعية ظلت عميقة، إذ ظل جزء كبير من السوريين ينظر إلى النظام السياسي الجديد باعتباره امتداداً للدولة وضمانة للاستقرار، في حين تبنى جزء آخر خطاب الرافض المطلق له ، معتبرًا أن التغيير الحاصل شكلياً أو استجابة لقوى خارجية.
توضح هذه الثنائيات السياسية المتصلبة نمطاً من التفكير السياسي يتجاوز الوقائع الراهنة إلى ما يمكن وصفه بـ«الاعتياد السياسي»، أي تحويل المواقف إلى عادات اجتماعية وأخلاقية متكررة، لا تخضع للمراجعة أو النقد و التحليل المستمر.
هذا النمط لا ينشأ من نقص الوعي السياسي فحسب، بل من تراكم عقود من التلقين والقمع، التي منعت السوريين من ممارسة النقد الذاتي، فباتت مراجعة المواقف السياسية تُعتبر تهديداً للهوية الذاتية أكثر من كونها ممارسة عقلانية، مما أنتج حالة من «التصلب المعرفي السياسي» تُضعف قدرة النخب السورية على قراءة المتغيرات السياسية السورية والدولية ورسم سياسات واقعية.
انتقلت المعارضة من موقع الفعل السياسي إلى موقع تمثيل «الحق الأخلاقي»، ما أنتج نمطاً من الهوية المغلقة، التي ترى في أي نقد ذاتي تهديداً لوجودها أو خيانة لقيم الثورة.
اعتياد السلطة… والخوف كآلية لإنتاج الولاء
استطاع النظام الأسدي، عبر التعليم الرسمي والإعلام والدعاية الأيديولوجية، تحويل الولاء السياسي إلى ممارسة حياتية يومية، بل إلى جزء من الهوية الوطنية ذاتها،بلغ الاعتياد السياسي ذروته عندما أصبح الخوف من الخروج عن السردية الرسمية مكونًا من مكونات الذاتية الوطنية.
مع مرور العقود من حكم الحقبة الاسدية، أصبح كثيرون من السوريين ينظرون إلى الولاء للسلطة على أنه خيار عقلاني يحميهم من «الفوضى» و«العدو الخارجي». حتى مع انهيار الاقتصاد وتراجع الخدمات وتفكك الهياكل الإدارية، ظل جزء كبير منهم متمسكًا بالنظام القديم بوصفه «أهون الشرور»، ما يعكس رسوخ الاعتياد أكثر من رسوخ القناعة السياسية.
المعارضة… اعتياد من نوع آخر
على المقلب الآخر ، لم تكن المعارضة السورية بمنأى عن هذه الظاهرة. منذ انطلاق الثورة عام 2011، تحوّل جزء من المعارضة إلى حالة من الرفض الأخلاقي المطلق لللآخر الساسي ، بحيث أصبح الرفض ذاته بديلاً عن رؤية سياسية متماسكة.
انتقلت المعارضة من موقع الفعل السياسي إلى موقع تمثيل «الحق الأخلاقي»، ما أنتج نمطاً من الهوية المغلقة، التي ترى في أي نقد ذاتي تهديداً لوجودها أو خيانة لقيم الثورة، و أعادت المعارضة إنتاج انقساماتها الأيديولوجية القديمة بصيغ جديدة، وبقيت تتعامل مع السياسة بوصفها ساحة للاصطفاف الأخلاقي أكثر من كونها مجالاً لتطوير برامج أو بناء مؤسسات أو صياغة بدائل واقعية.
هكذا ظهر نمط من الاعتياد السياسي يشبه تماماً اعتياد المؤيدين للنظام ، يقوم على غياب المراجعة وعلى الخوف من الاعتراف بالأخطاء.
غياب الفضاء العمومي وانكماش الهوية الوطنية
تلاقت آليات الاعتياد السياسي لدى النظام والمعارضة في إنتاج فضاء عمومي مغلق، محدود القدرة على استيعاب الاختلاف أو بناء توافقات وطنية، و وفق هابرماس، توفر الفضاء العمومي يتطلب حرية تداول الرأي، مؤسسات وسيطة، وإعلام مستقل. في سوريا، حيث أنتجت العقود الماضية فضاءً عمومياً مشوّهاً، تغلب عليه الخطابات التعبوية والانفعالية، مما انعكس على الهوية الوطنية، وجعل الانقسام السياسي امتداداً للصراع الاجتماعي، لا أداة لإدارته.
غياب الفضاء العمومي في سوريا لم يقتصر على انعدام المنابر، بل شمل غياب ثقافة سياسية عقلانية قادرة على بناء الثقة بين السوريين ، وإعادة تعريف دور المواطن، وتوجيه الحوار نحو القضايا الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية.
لقد تحوّل الاعتياد السياسي إلى آلية اجتماعية لإدامة الجمود، المؤيد للنظام الجديد يخشى التغيير خوفاً من المجهول.
كسر حلقة الاعتياد السياسي
يتطلب تجاوز «سياسة الاعتياد» على السلطة إعادة بناء منظومة الوعي السياسي من الأساس، عبر عمليات بنيوية تشمل:
· إصلاح التعليم والإعلام بتحريرهما من التلقين الأيديولوجي ليصبحا أدوات لتطوير التفكير النقدي والنقاش المستقل.
· تمكين مؤسسات المجتمع المدني، النقابات، الجمعيات، الصحافة الحرة، لتشكل فضاءات لتبادل الرأي وصقل مهارات المشاركة.
· تفكيك العادات السياسية الراسخة، كما يشير بيار بورديو، تستمر السلطة عبر «العادات الذهنية» التي يتبناها الأفراد من دون وعي، وبالتالي، تحرير السياسة في سوريا يتطلب استبدال هذه العادات بممارسات قائمة على الشفافية والمساءلة والمشاركة.
· إعادة تعريف الولاء السياسي بالانتقال من الولاء للشخص إلى الولاء للمؤسسات والقوانين والدولة، وهو شرط لبناء وطن حديث.
نحو «اعتياد السياسة» كممارسة مدنية
لقد تحوّل الاعتياد السياسي إلى آلية اجتماعية لإدامة الجمود، المؤيد للنظام الجديد يخشى التغيير خوفاً من المجهول، والمعارض يخشى المراجعة خوفاً من فقدان الشرعية الأخلاقية كمعارض . كلا الطرفين يسهم من دون قصد في استمرار الأزمة السياسية الحالية.
يتطلب الانتقال إلى «اعتياد السياسة» أي بناء ثقافة سياسية جديدة تعتبر السياسة ممارسة يومية قائمة على التفاوض والاختلاف والتسوية، لا على الانفعالات العاطفية، و الديمقراطية ليست موقفاً ثابتاً، بل عملية مستمرة لإنتاج توافقات سياسية جديدة، والمواطنة ليست ولاءً أعمى، بل يقظة سياسية نقدية مستمرة.
عندما يصبح تغيير المواقف السياسية استجابة طبيعية لتغير المعطيات، وليس مجرد استبدال شعارات بأخرى، يمكن لسوريا الدخول في مرحلة سياسية جديدة، تصبح فيها السياسة جزءاً من الحياة العامة، يمارسها المواطن بوعي ومسؤولية ورغبة حقيقية في المشاركة.
خاتمة
ليس كسرُ الاعتياد السياسي مجرّد تمرينٍ في النقد أو وعيٍ نظري بالتحول، بل هو مسارٌ طويل لإعادة بناء الذات السورية بعد زمنٍ طويل من الإنهاك والاصطفاف. فالسياسة، في جوهرها، ليست صراعًا على السلطة بقدر ما هي وعيٌ بالعيش المشترك ومسؤوليةٌ في إدارة الاختلاف. حين يتحوّل النقاش إلى عادة، والمراجعة إلى قيمة، والاختلاف إلى مصدر خصوبة لا تهديد، يمكن القول إن السوريين بدأوا يعتادون السياسة حقًّا؛ لا بوصفها طقسًا للولاء أو الرفض، بل كمساحةٍ دائمةٍ للحرية والتفكير والعمل. وعندها فقط، يستعيد الوطن معناه كمجالٍ مفتوحٍ للتعدد، لا كجدارٍ يكرّس الخوف.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى