
مثل أيَّ طُغمة دكتاتورية عتيدة، لم تُكلِّف النُّخبةُ الفرنسية نفسَها إظهارَ موقفٍ حاسمٍ تجاه تنظيم مؤتمر “فلسطين وأوروبا” في “كوليج دو فرانس”، إلّا قبل يومين من انعقاده، لتُلغيه الكلّية، ويدعمها وزير التعليم العالي والبحث العلمي، رغم أن المؤتمر لم يكن سرّاً، بل أُعلِن منذ شهور، لكنّه صار فجأةً “خطراً على الأمن العام”. بالضّبط كما تفعل أيّ مؤسّسة في دولٍ غير ديمقراطية، يُصبح فيها أيُّ عمل مخالف للتوجهات الرسمية خطراً على الأمن العام، وطعناً في مبادئ الدولة.
بحكم تجربتنا الطويلة في مثل هذه السلوكيات، التي تمنع فيها وزارات الداخلية أو التعليم في بلادنا أيَّ نشاط لا ترضى عنه، في اليوم السّابق وربّما قبل انعقاده بساعة. يصل المشاركون ويفاجأون بالشرطة، وبالمسؤولين المحلّيين وقد أغلقوا القاعة، ولا يعود أمامهم سوى العودة إلى بيوتهم، وندب الحرّيات المُغتالَة. أمّا حجّة الإخلال بالأمن العام فهي حجّة عريقة عندنا، وصفيقة أيضاً. إذ يمكن تكييف كلّ شيء على ظهرها، حتى لو كان عُرساً أو عشاءً عائلياً ينكّد “عيشة” مسؤول ما. بل وصلت بعض الدول إلى ابتداع تهمة “تكوين عصابة إجرامية”، فقط إن دخلت جماعة في نقاش مع مجموعة مُعارِضة للخطّ الرّسمي.
كلّها عادات تجترحها الدول غير الديمقراطية لإخراس الأصوات المختلفة، لكن هنا حتى فرنسا، إحدى قلاع الديمقراطية الرائدة، تُصبح دولةً شموليةً عنصريةً، حين يتعلّق الأمر بمواضيع مُحدَّدة. تختفي كلّ الشعارات اللامعة، ومبادئ الجمهورية الخامسة تأخذ غفوةً مفاجئة. ما يتبقى في الساحة قرارات وقوانين تضرب ما سبق كلّه. والغريب أن جهات “محترمة” على المستوى السياسي أو المعرفي، لا تجد عيباً في الموضوع، ولا مسّاً بالحريات.
مارست اللوبيات ضغطها، وضعُف أمامها عميد “كوليج دو فرانس”، الذي أثنى على قراره وزير التعليم العالي، وأثبتوا أنّ في فرنسا “أخاً أكبر” يصادر حرّية التعبير، وحرية النقاشات العمومية، وحرية المعرفة في التعبير عن نفسها من دون قيود، التي صارت تشكّل خطراً كبيراً عليه. رغم أن الخطر الوحيد هنا هو الخطاب اليميني الذي يضرب تاريخ الجمهورية في حائط التطرّف، والتعصّب لدولة مدانة بجرائم حرب.
منشور وزير التعليم العالي الداعم لقرار “كوليج دو فرانس” تحجّج بـ”قيم الجمهورية واحترام القانون” لتبرير القرار، الذي يبدو أنه جاء، حسب إقراره، بعد حديث مع مدير الكلّية. منذ متى كان التقييد من قيم الجمهورية؟ ومنذ متى كان القانون ضدّ الحرّية الأكاديمية؟ وكيف صار على الأبحاث العلمية أن تكون متوازنةً؟ وكأنّ الإدارة الفرنسية حاولت يوماً أن تكون كذلك، أو أن الأكاديميا تنطبق عليها معايير الحكومات والدول، وكأنّها إدارة تابعة لها. وهذا أمر تمارسه الدول المتخلّفة ديمقراطياً، والشُّمولية التي تُلزم كلّ كائن يتنفّس على أرضها، بعدم تجاوز الخطّ الرسمي. لكنّه أمر رغم فجاجته، يتماشى مع إيقاع جمهورية تذهب نحو تقييد الحريات منذ فترة، ومثّلت فيها الإبادة فرصةً لكشف الوجه الآخر لميزان الحريات في المظاهرات المساندة لغزّة، فظلّت مُقيّدةً فترةً طويلة، إلى أن تغيّر الموقف الرسمي، وصار على إيمانويل ماكرون اعتناق “التوازن” الاضطراري، لأن مصالحه تفرض عليه ذلك. خاصة بعد تغيّر نظرة العالم إلى غزّة، وإدراكه حجم الإجرام الذي قد تصل إليه دولة الاحتلال.
لعلّ الإلغاء أربك المنظّمين، ولعلّه أساء إلى الحكومة والنُّخبة، لكنّه كان ضارّةً نافعةً في جانب آخر، لأن عدداً مهمّاً من الناس لم يعلم سابقاً بالمؤتمر، وصار على اطلاع عليه الآن، وسينتظر مجرياته وما يصدر عنه من خلاصات. يُعلَم الآن من خلال البلاغات بحقيقة تغلغل اللوبي الصهيوني في القرار العلمي والسياسي.
هذا كلّه يحدث في وقت تُنظِّم فيه جماعة الضغط “إلنت”، وهي منظمة تهدف إلى تعزيز العلاقات بين أوروبا وإسرائيل، ندوةً في مجلس الشيوخ تموّلها إسرائيل. بمعنى أن التوازنَ محضُ عذر مهلهلٌ أمام واقع يقول إنّ الطرف الآخر هو الوحيد المسموح له بالحديث في فرنسا. والغريب أن الطرف الآخر هو الذي ثبتت عليه جرائم الحرب، وليس الضحيةَ المطلوب منها أن تموت بهدوء، ولا تُفسِد على الصّهاينة نعيمهم بـ”جهل” الآخرين.
المصدر: العربي الجديد






