الفلسطينيون في الضفة الغربية… كيف لا يتآكل الصمود؟

أسامة عثمان

تتكاثر على الفلسطينيين في الضفة الغربية عوامل معادية تستهدف ثباتهم وصمودهم. هذا العصب الذي وصل إليه التحدِّي فعلاً، وأصبح يُمتحَن لدى كل فلسطيني يعيش عدواناً صهيونياً استيطانياً، ولا يجد في المقابل ما يكفي من عوامل الإسناد الداخلي. هذه الحالة المُطْبِقة هي ما تُميِّز هذه المرحلة المصيرية، ومع أن مهدِّدات الحياة بالقتل قائمة، ومستمرَّة، على يد قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين، برُعاتها وحُماتها في حكومة الاحتلال، يبدو أن التهديد الذي تفاقم، منذ عملية طوفان الأقصى والحرب الإجرامية على غزّة، هو تهديد العيش نفسه، بسبب شُحِّ الموارد، ومحدودية السيولة المالية، وتراجُع فرص العمل، بعد وقف تصاريح العمل داخل الخط الأخضر. وفيما كانت الأراضي الواقعة في المنطقة المصنَّفة (ج) تمثّل جزئياً رافداً اقتصادياً، زراعياً، وقعت هذه الآونة، بمحصولها الأساسي الحيوي وهو الزيتون، تحت استهداف منظَّم، تُجسِّده اعتداءات المستوطنين التي اتَّسع نطاقُها إلى مناطق لم تكن تصل إليها، وأصبحت أكثر خطورة.
وبهذا يعمل المستوطنون، وبقيادة مُعلَنة من حكومة بنيامين نتنياهو، على بسط الوجود الاحتلالي الاستيطاني على الحياة في الضفة الغربية، وتحجيم مظاهر الوجود الفلسطيني، حتى على مستوى المشهدية البصرية، إذ لا ينحصر الهدف في حرمان الفلسطينيين من الانتفاع بشجرة الزيتون، بتدميرها، أو حرقها، أو سرقة محصولها بعد قطف أصحابها له، بل منع تجسُّد العلاقة الطبيعية المتوارثة بهذا الالتفاف المبهِج حول شجرة الزيتون، بما يعكس أصالة الوجود الفلسطيني وتناغمه مع مفردات الطبيعة، ما يعني طمس الأحقية وتشويش الفاعلية الأصيلة للفلسطيني زارع الزيتون (منذ سنين، وعشرات السنين أو يزيد)، بوجود مُقحَم وطارئ وتخريبي ومصطنَع، يمثّله المستوطن المَغِيظ والمأزوم.
يعمل المستوطنون، وبقيادة مُعلَنة من حكومة نتنياهو، على بسط الوجود الاحتلالي الاستيطاني على الحياة في الضفة الغربية، وتحجيم مظاهر الوجود الفلسطيني
وفيما يوحّد الفلسطينيين وجودُهم الطبيعي، يتوحَّد المستوطنون بدعم حكومي، سياسي ومالي وعسكري. وهنا تختلّ المعادلة، مادياً على الأقل، ولكن قد تمتدُّ إلى الناحية المعنوية، وهي مقصودة ومستهدَفة، احتلالياً، فلا يمكن مقارنة ما تقدِّمه السلطة الفلسطينية، أو ما تستطيع أن تقدِّمه، وهي المأسورة باتفاقاتها مع إسرائيل بما تقدِّمه دولة الاحتلال وأجهزتها للمستوطنين. السلطة الفلسطينية لا تنقصها الإمكانات المادية فقط للحماية والدعم المالي، ولكن تنقصها السياسات الجادّة أيضاً، إذ تعاني خللاً بنيوياً، يكاد يعطِّل أيَّ فاعلية مؤثِّرة، فسلامتها الذاتية الداخلية زادت العلامات على تضعضُعها، بتكاثُر حالات الفساد، ونهب المال العام، من دون ضمانات على المحاسبة، هذا الطفح الفسادي، يصبُّ في تآكُل الرصيد المعنوي، ويتضافر (أحببنا أم كرهنا) مع المِعْوَل الاحتلالي. وقد كان لافتاً منذ الحرب على غزّة تعاظُم البُعد المعنوي في الصراع، بمحاولة النفاذ إلى الشخصية الفلسطينية، وإلى صميم مفاخرها، بهدف كسرها وكأنهم تنبَّهوا إلى أن الخسائر المادية، حتى لو تمثَّلت في خسارة الأرواح العزيزة، بالاستشهاد مثلاً، لا تنفذ إلى موطن الإرادة الفلسطينية، بل إنها في حالات غير قليلة تعزِّزها، ويُلهِمها المزيد، فلذلك عملت دولة الاحتلال بكل جهدها مثلاً في منع المظاهر الاحتفالية، كالتي حصلت عند تسليم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) محتجزين إسرائيليين، كما عملت على كبح أيِّ مظاهر احتفالية لدى الأُسَر الفلسطينية بتحرير أبنائها، الذين حُرِّروا في صفقة التبادُل من سجون الاحتلال، بل حرصت على إظهار صورة للأسرى أرادتها أن تُرسّخ القمع والسيطرة والوحشية الإسرائيلية في ملامح الأسرى الجسدية، ومن خلال هيأتهم وملابسهم.
كما حرص وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير على تكرار عرض صور الأسرى، مثل مروان البرغوثي بما له من رمزية، وغيره من الأسرى، يعانون، وينكَّل بهم. مع أن هذه الممارسات لا تخلو من دلالات مزدوجة وعكسية، فهو يريد البرهنة على ما لا حاجة إلى البرهنة عليه، وهو أن هؤلاء الأسرى واقعون تحت سيطرة آسِرِهم، فيما بن غفير، وليس وحده، لا يزال متشكِّكاً ومهووساً بصورة البطل الذي لا يزال يمثِّله هذا الأسير، فيحاول أن يحطِّمها.
وفيما يُدرَج هذا العامل الاحتلالي في مكانه، فإنه غير مفاجئ، وإن زاد تدنّياً وسفوراً، يُضاف إليه حضور العامل الفلسطيني الداخلي بمحاولة تظهير الأبعاد التنفّعية، والاستخدام المُغرِض لقضية الوطن وفلسطين، لتشغل مفرداتُ المناصب والمكاسب وسوء استخدام السلطة، بما فيها الفساد والسرقة، مساحات أكبر في الوجدان الفلسطيني بعد الفراغ الذي نشأ من تراجُع الخطاب التعبوي النضالي، ولتحدُث المفارقة؛ وكأنّ الظهر أُدير عن الهمِّ الوطني، فيما هي لحظة حقيقته، وتوجَّهت الأنظار والمساعي إلى مكاسب شخصية. بهذا الفهم، وبهذه الصورة العمومية، تقع أضرار معنوية أبلغ أثراً، وأوسع نطاقاً، من تلك التي يريدها الاحتلال من وسائله المنحطّة التي وصلت حدّ اغتصاب بعض الأسرى، ذلك أن الفلسطيني يشعر بأن بناءه الداخلي وبيته ومأواه بدأت تفقد بعض أهم معانيها.
يشعر الفلسطيني بأن بناءه الداخلي وبيته ومأواه بدأت تفقد بعض أهم معانيها، بتكاثر الفساد وسوء استخدام السلطة
وحين تحدث مكيافيلّي في “الأمير”، وهو غير المُحتَفِل بالفضائل لذاتها، عن اشتراط بقاء الأمير بمنع افتضاح انحرافاته وقبائحه، وضرورة تحاشي كلِّ ما يجلب له العار والكراهية، يعني ذلك أن مقداراً ضرورياً من الاحترام يجب أن يبقى، أو يُستبقى بين الحاكم وشعبه، كما قد يعني أن الفساد، حين يتعاظم ويصبح من الصعب تغطيته، فإن ذلك قاضٍ، لا محالة، على شرعية الحاكم، حتى لو بقي، أو أبقي في الحكم.
فمن شأن هذه القضايا الفسادية، إن لم تُستأصَل، أن تشجِّع على مثيلاتها، لدى كلِّ صاحب منصب، أو صلاحية، ما دام مطمئنّاً إلى حماية، ولا أهميةَ ساعتها لرأي عام، ولا لحقوق الناس، التي هي في فلسطين والضفة الغربية منتهَكة أصلاً بالعدو الخارجي، ويصبح الحديث عن الصمود والتضحية محلَّ توهين وتشكيك، وتحدث المقارنات التي لا بدَّ منها، بين عيش مسؤولين في السلطة الفلسطينية وأبنائهم وأسرهم، وعيش القطاعات الأوسع من أمثال الموظفين في القطاع العام، ممن لا يتقاضون من رواتبهم المحدودة أصلاً إلا قرابة النصف. وهذا لا يساعد بالطبع على تعزيز وجود الفلسطينيين، وعلى فتح آفاق المستقبل، أمامهم وأمام أبنائهم.
وبهذا ينخفض منسوب الجدل والنقاش من الشأن العام إلى الشؤون الخاصة، من الخطاب المُوحِّد إلى الاهتمامات النفعية، مع أنها مشروعة. لكن ثمّة فرق بين بحثها في نطاقها، وبين صرف الأنظار بالكلّية إليها، وإحلالها، في هذه المرحلة الوجودية، في الصدارة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى