الحريري كان رجل مرحلة أيضاً

عبد الناصر القادري

كان رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري شخصية قد تجاوزت حدود المسؤول العملي والبراغماتي أو رجل المرحلة (man of the moment)، إذ حقق حضوراً استثنائياً على المستوى العربي والمحلي، واستقبل في كل دوائر صناعة القرار في واشنطن وباريس ولندن وموسكو والرياض والقاهرة ودمشق.
كان الحريري زعيما لبنانيا ليبراليا يؤمن بالسوق الحرة حليفا للغرب، لم يتورط في الدماء (الشخصية الوحيدة بين أقرانه التي لم يكن لديها سجل جرائم حرب أو متورط بشكل مباشر بالحرب الأهلية اللبنانية 1975 -1990).
شخصية غير طائفية في بلدٍ تعتاش أحزابه على الطائفية (ولعل تيار المستقبل هو التيار الوحيد الذي يضم شخصيات من كل الطوائف في لبنان).
فهم الحريري عقلية حافظ الأسد وتعامل معه على أنه شرطي المنطقة المفروض والمقبول، فأعطاه حصته كما يفعل التجار مع المافيا (paid a kickback) بهدف الاستمرار في مشروعه، ونجح بذلك.
أعاد الحريري بناء لبنان وشيد مؤسساته وأعطاها رونقها المشهور بأموال خليجية واضحة، وكان شكلاً من أشكال مستقبل لبنان قولاً وفعلاً، رغم كل التحديات التي ولدها نظام الأسد الأب ونظام ابنه المخلوع من بعده.
اغتيال الحريري كان مصلحة إيرانية بالدرجة الأولى (واستفادت منه إسرائيل التي كانت تطمح لإفشال تجربته التنموية في المنطقة).
كُلّف (المخلوع) بشار الأسد بملف لبنان في آخر أعوام أبيه، فغيّر في الخطط الهادئة وبدأ في تعكير الأجواء بنظرة استعلائية لا ترى في لبنان حتى حديقة خلفية لسوريا بل أقل من ذلك (يمكن القول إنه كان يختصر لبنان في الكازينو الشهير الموجود بعاصمته)، وساعده الخصوم اللبنانيون في تدمير مشروع الحريري ومشروع لبنان نفسه.
تمكن لبنان من تحقيق قفزة اقتصادية في السياحة والتمويل والبنوك والتجارة وصناعة الترفيه والإعلام وطباعة الكتب والتعليم، وقد سبق دولاً عربية وازنة في ذلك، ويعود ذلك للحريري وعلاقاته وإمكانياته أيضاً.
مثّل الحريري رؤية الخليج وفرنسا في لبنان ما بعد الحرب (تنمية معقولة وأجواء حرية تقترب من الفوضى حيناً ومن الديمقراطية حيناً، لكنها تبقى على البركان الخامد نثورها متى نشاء).
كانت رؤية حافظ الأسد أن لبنان أرض جيدة للتخلص من الخصوم الذين خلفتهم الحرب، ومناسبة لضبط العلاقات مع إسرائيل وإيران والخليج، وضمن الهامش الأميركي المتاح، وبيئة خصبة للتهرب من العقوبات والعملة الصعبة، ومتنفّس ضروري لكبار الضباط والمسؤولين السوريين والعرب الذين لديهم ليالٍ حمراء بحماية سورية خالصة.
جاء بشار الأسد إلى الحكم مع صعود حزب الله الذي رأى في موت حافظ الأسد فرصة سانحة للتغوّل أكثر بدعم إيراني غير محدود. انسحبت إسرائيل من الجنوب على وقع ضرباته (وحقق ما يسمونه النصر التكتيكي الأول)، إلا أن النفوذ العسكري والأمني لنظام الأسد كان خانقاً ولا يعطي المساحة الكافية للحزب للتحرك كما تريد طهران.
تكفّل بشار الأسد بذلك عبر زيادة تعدّيه على اللبنانيين وتدخّله في عمل الحريري مع إجباره على التمديد لرئيس الجمهورية حينئذٍ إميل لحود (صبي بشار الأسد في لبنان)، ما رآه الحريري تحدياً مباشراً ولم يقبل به، فانتهى الأمر باغتياله في 14 من شباط 2005، في لحظةٍ لن ينساها اللبنانيون و لا السوريون ولا العالم.
اغتيال الحريري كان مصلحة إيرانية بالدرجة الأولى (واستفادت منه إسرائيل التي كانت تطمح لإفشال تجربته التنموية في المنطقة)، وقراراً غبياً من بشار الأسد أخرجه من لبنان ووسّع نفوذ حزب الله وإيران للسيطرة على كل لبنان ومن ثم التمدد في سوريا (للتوسع يمكن قراءة كتاب البعث الشيعي للباحث السوري عبد الرحمن الحاج).
حافظ حزب الله على علاقة متينة مع بشار الأسد بعد مقتل الحريري، وعقد اتفاق 8 من آذار مع الأحزاب المارونية (التيار الوطني الحر بزعامة ميشال عون وتيار المردة بزعامة سليمان فرنجية)، وقسّم الدروز (طلال أرسلان ثم أتانا بوزير الغفلة وئام وهاب)، ودعم تفكيك سُنّة لبنان عبر دعم تيار الأحباش المتطرف صوفياً، وبعدها تحولت سوريا من متحكم في لبنان إلى الممر الحيوي لكل دعم إيراني إلى حزب الله وحركة أمل التي احتواها الحزب تحت مظلته.
ما يمكن الاستفادة منه اليوم في سوريا هو أن التنمية الاقتصادية تحتاج قوة عسكرية ضابطة للأمن، ونية دولية لعدم إحباط الهدف، ورغبة داخلية في تحقيقه، وحرية معقولة لإنجازه، واستقرار حكمٍ لحصد الإنجاز.
اغتيال الحريري أعطى حزب الله نفوذه الواسع في لبنان، ونقل عصب القوة من عنجر في البقاع وقصر الشعب بدمشق إلى قبو رطب تحت الأرض في الضاحية مع خطّ (آمن) – ساخن مع السفارة الإيرانية في بيروت أثبت حضوره الدقيق حين انفجرت أجهزة البيجر في الضاحية والسفارة الإيرانية بوقت واحد.
ما أريد قوله اليوم، استناداً إلى تجربة الشهيد الحريري، إن التنمية الاقتصادية من دون قوة ليس فيها ديمومة (Economic development without power is unsustainable)، خصوصاً أن الاحتلال الإسرائيلي ومن خلفه كانوا قد تجاهلوا موضوع قتل الحريري رغم إمكانية إحباطه عبر سلسلة غير منتهية من التجسس والرصد، ولم يتدخل أحد منهم، وكل ما جرى خلال العشرين سنة الماضية كان متصلاً بطريقة أو بأخرى بعملية الاغتيال التي غيرت من تركيبة المشهد في لبنان وسوريا أيضاً.
ما يمكن الاستفادة منه اليوم في سوريا هو أن التنمية الاقتصادية تحتاج قوة عسكرية ضابطة للأمن، ونية دولية لعدم إحباط الهدف، ورغبة داخلية في تحقيقه، وحرية معقولة لإنجازه، وتشارك شعبي بالقرار، واستقرار حكمٍ لحصد الإنجاز.
العلاقات الدولية غاية في الأهمية، والاستقبالات في مراكز القرار رائعة من حيث المكسب الدبلوماسي، ويمكن لعب كرة السلة وكرة القدم والغولف مع أكبر قيادات العالم المدنية والعسكرية، ويمكن التقاط أروع الصور في أبهى الأماكن، وصعود أدراج طويلة أو الدخول من أبواب خلفية لأبرز القصور، ولكن ما هي المصالح والمكاسب والخسائر التي ستؤدي إلى تركنا ننجز عملنا، أو ما يسمى جدول الأعمال (The agenda) من دون عبثٍ وهدمٍ مستمرين؟
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى