ما الذي يجمع بين المسيح عليه السلام، والإمام الحسين رضي الله عنه، وجان دارك، ورفيق الحريري…؟! يجمع بين الأربعة أنهم قتلوا مظلومين بلا ذنب أولاً، وأن الاربعة لم يموتوا يوم قتلوا، ولم ينطفئ ذكرهم – ثانيا – بل أصبحوا رموزا حية بعد موتهم غير قابلة للاندثار، وكأن قتلهم كان بمثابة ولادة أزلية لهم.
من يراجع التاريخ يجد هذا المثال على ندرته يتكرر باستمرار، أشخاص يقتلهم أعداؤهم لينهوا حيواتهم، ويطفئوا سطوعهم وتأثيرهم بين الناس، فإذا بالقتل والموت يزيدهم سطوعا، يولدون من رحم الموت، ويبدأون حياة أكثر إشعاعا وتأثيرا، وينالون قسطا غير محدود من الخلود، تكريما لرمزيتهم ورساليتهم، وتعويضا عما لحقهم من ظلم، وتحريضا للآخرين على الاقتداء بهم.
رفيق الحريري الذي كان له من اسمه نصيب كبير, لطيف, رقيق, جميل, ناعم, حتى أغرت هذه المزايا خصومه, فتراءى لهم التخلص منه سهلا, كما تخلصوا من غيره فعلا ومرّت عمليات قتلهم, بلا آثار جانبية تهددهم, فسولت لمجرم يسيطر عليه الشبق الدموي اسمه بشار الأسد أن يهدده وهو رئيس لحكومة لبنان بطريقة هستيرية ( سأحطمك وأحطم لبنان على رأسك ) , لمجرد أن رفيق الحريري كان يعمل على تحقيق حلم شعبه , بانقاذ بلده الصغير من براثن الوحش ومخالبه , وإعادته الى دائرة الدول الحرة , الرائدة في محيطها العربي والعالمي , بل كان حلم الشهيد قد توسع الى انقاذ سورية أيضا , وإعادتها الى الحياة من غياهب الذل والظلم التي وضعها آل الأسد فيها نصف قرن , لأنه يعلم كما يعلم الجميع أن حرية لبنان وازدهاره مرهون بحرية سورية وازدهارها , وأن طغيان حكام سورية يؤثر على لبنان, إذ لا تعايش بين الحرية والاستبداد.
أهدر أركان محور المقاومة دمه بطريقة حرفية محكمة، لا يقوى عليها إلا الذين تمرنوا وتمرسوا طويلا وتخصصوا في هذا الصنف من الاجرام الوحشي, ولا تقل همجية عن الطريقة التي قتل بها يسوع (أو شبه لهم) وقتل بها شهيد الأئمة وإمام الشهداء, أو أعدمت بها القديسة جان دارك.
الحقد يعمي بصيرة الحاقد, وهذا ما حدث مع قتلة الحريري, نفذوا جريمتهم الشنيعة بعد تدبير وتخطيط وتنسيق استمرت شهورا, اشتركت فيه عصابة أخطبوطية من المجرمين رفيعي المستوى, والمدربين تدريبا عاليا جدا , نسفوا جسده بكمية من المتفجرات , تكفي لنسف وتدمير قلعة , ولعلهم تعمدوا أن يدمروا لبنان الجديد تنفيذا لتهديد بشار الأسد له.
شُبه لهم أنهم مزقوه وتخلصوا منه، ولم يتوقعوا أن تزلزل روحه الأرض تحت عروشهم، وان يحرك دمه العالم كله , ويوحده في انتفاضة عالمية هي الأولى من نوعها بدأت من مجلس الأمن الدولي , وامتدت الى المحكمة الدولية الخاصة بملاحقة قتلته , واحدا بعد واحد , ويكشف جنودهم الذين خططوا ودبروا ونفذوا . ووضع بشار الأسد في قفص الاتهام وحاصرته مع زمرته وحلفائه في دائرة المجرمين الدوليين وأجبرهم على الخضوع لتحقيق جنائي لا تجدي معه الحصانة ولا السيادة.
أثبت الشهيد الرفيق الحريري أنه ليس رقيقا وناعما ولطيفا ولا ضعيفا ولا حريريا لينا فقط , كما توقعوا , بل أثبت أنه قوي الى درجة الاستعصاء عليهم وعلى الموت , وأنه يتمتع بقوة ناعمة وحديدية وخارقة.
في اللحظة التي أراد شياطين الشر إحراق جسد رفيق الحريري وإحراق لبنان معه، في منتصف نهار الرابع عشر من شباط 2005 , كان يولد من جديد , ويخرج من رماد جسده (رفيق الحديدي) الذي استطاع خلال أيام فقط بما يشبه المعجزة الخارقة اقتلاع الاحتلال الأسدي الممتد ثلاثين عاما , ولم يكن أحد من كتاب سيناريوهات الخيال العلمي والأدبي أن يتصور كيف ستكون نهايته , وإنهاء ميراثه البشع والشنيع. أخرجهم رفيق الحديدي بسرعة خارقة , وبطريقة تليق بهم , وحرر لبنان من رجسهم, وحاصر دمه الزكي رأس الفتنة في دمشق وزمرته , وكل حلفائه في محور الطغيان والتسلط والارهاب على مستوى الاقليم . واضطر المحور أن يتخلص من عشرات الاعوان والعملاء في حلقات الجريمة المنظمة لإبعاد الشبهة عنهم, والنجاه من لعنة الحريري التي تطاردهم في نومهم ويقظتهم كالكابوس المرعب.
كان رفيق منذ بداية ظهوره مخلصا ومنقذا للبنان، فحين كان الجميع يؤسسون الميليشيات ويشترون السلاح ويحرضون على استمرار الاحتراب الاهلي والتدمير والخطف والنهب والاغتصاب, كان هو الوحيد الذي ينتشل الشباب من أتون الوحشية ويرسلهم الى أرقى جامعات العالم ليدرسوا ويتعلموا ويمتلكوا العلوم والفنون ليعيدوا بناء بلدهم الجميل , وما خربته أيدي المجرمين واللصوص.
وكان له دور بارز في جمع الفرقاء المتحاربين تحت خيمة الطائف لإيقاف الحرب , وإعادة السلام والوحدة الى الوطن الممزق والمعذب , ثم كان رائدا في إطلاق مشاريع إعادة البناء الكبرى التي تجسد طموحه وحلمه الكبير, وتجديد البنية التحتية للبنان الجديد الجميل إنعاشا للأمل بعودته الى مصاف الدول الديمقراطية المزدهرة والمؤثرة في محيطها.
بفضل اخلاصه وكاريزميته المحلية والعربية والدولية تمكن من تكريس السلام الداخلي في زمن قياسي، وتوفير الأموال لإعادة الاعمار، والاصلاح , وترميم النفوس والاقتصاد , والعلاقات مع الجميع . وسيظل اسم رفيق الحريري عنوانا لعشرات المشاريع العملاقة في لبنان , لا سيما أن قتلته وسارقي السلطة بعده عجزوا عن إقامة مشروع استراتيجي واحد . بل إنهم نهبوا وسرقوا حتى شارف لبنان بلدا يعيش مجاعة مقنعة، وينحصر مصيره بين دولة مفلسة ودولة فاشلة , ومهددا بكارثة أشد هولا من كارثة الحرب الأهلية السابقة, بعد أن استولت على قراره ومقدراته دول اقليمية لا ترحمه ولا ترحم أهله. واستراتيجيتها الوحيدة غرس الفتن ونشرها, وايقاظ الوعي الأساطيري, ونهب جيوب اللبنانيين, وتمزيق شرايينه مع أشقائه العرب, ومع دول العالم المتحضرة, تحت شعارات وعناوين زائفة.
وإذا كان كل ما سبق معلوما لقطاعات واسعة من الرأي العام اللبناني والعربي والدولي, فإن مشروعه الأخطر كان إنقاذ الشعب السوري من تسلط آل الأسد وطغيانهم , وقد بقي العلم به محصورا في نطاقات أضيق من السوريين وأهل الخبرة, ويحتاج للإضاءة عليه . فقد كان جادا في دعم مجموعة من رجال النظام العصبوي للتمرد عليه , والانشقاق عنه , وأقام لهم شبكات أمان خارجية , وفتح قنوات اتصال بينهم وبين دول عربية وغربية, كانت وما زالت تسعى للتخلص من الأسرة الفاسدة المجرمة التي شمل بغيها وارهابها معظم دول المنطقة من لبنان الى العراق, ومن فلسطين الى السعودية, ومن الاردن الى مصر. وعندما تناهى الى علم بشار الأسد واستخباراته بما يخطط له هذا “الحديدي” قرر الانتقام منه فورا، ولكن قتله لم يحقق لطاغية الشام النتائج التي زينها له شيطانه الرجيم، بل حدث ما لم يحتسبه, وعاد الحديدي الى ساحة الفعل والتأثير بعد موته أقوى مما كان في حياته, واستمر دمه يلاحق ويطارد محور الشر بين بيروت ودمشق وطهران. والله غالب على أمره ولو كره المجرمون.
رحم الله رفيق الحريري، وأمد بعمر رفيق الحديدي.
المصدر: المدار نت