منذ أن تشكلت المحكمة الخاصة لمحاكمة المتهمين بقتل الرئيس الشهيد المظلوم رفيق الحريري عام 2005 والخوف سائد من تسييس المحكمة، وكان المدافعون عن حزب الله ونظام الأسد هما أكثر من يروج لهذه المقولة . على أساس أن الجو الدولي الغربي والعربي كله مناهض لحزب الله ونظام الأسد ، وأن هذه الدول ستستغل مقتل الحريري لتوجيه الاتهام بشكل جاهز ومسبق لهما لأغراض سياسية ، وبدون أي دليل ، ولذلك كان من بين الدول المتعاطفة مع المتهمين والمشتبه بهم من يطالب – وخاصة روسيا – بوضع ضمانات وضوابط لعدم تسييس المحكمة ، وجعلها مهنية ونزيهة ومحايدة .
ما رأيناه اليوم في قرار المحكمة بعد 15 عاما من التحقيقات الأمنية والقضائية يدل دلالة قوية أن المحكمة كانت مسيسة فعلا، ولكن لصالح المتهمين لا ضدهما، وهذه مفاجأة صاعقة لم يتوقعها أحد سابقا.
برأيي المتواضع، وبناء على خبرتي التي لا يستهان بها في القضاء، أن هذا القرار صيغ بطريقة دقيقة جدا بهدف (إرضاء جميع الأطراف وعدم استعداء أو استفزاز أحد منهم الى درجة تخلق فتنة) وهذا حدث بلا شك على حساب العدالة التي بدت لنا “عمياء” جدا !
كان جميع الذين لهم علاقة بالقضية محرجون بما فيهم القضاة، وكأنهم متورطون في قضية طالت خمسة عشر عاما ، والعمل فيها مرهق جدا ، ولا بد من حسمها واصدار قرار فيها لا يثير أزمة ولا يشعل حربا جديدة في لبنان . لذلك وقع على المحكمة ومموليها عبء ايجاد مخرج منها بصياغة قرار يمثل حلا وسطا بين كل الفرقاء ، يرضي الجميع ، ولا يوتر الأجواء والعلاقات الحساسة جدا . أي كان الجميع بحاجة لقرار يطفئ حربا ، ولا يشعل حربا جديدة في لبنان وعلى مستوى المنطقة .
قد يعترض بعضكم بحجة أن هذه محكمة تشكلت بمعايير دولية، وقضاتها من أشهر قضاة الدول الغربية وأنزههم، وأقول في جملة معترضة إن من يصدق وجود قضاء مستقل ونزيه مائة بالمائة، إنما يرتكب خطأ فاحشا ، ويقع في وهم “المثالية” ، والمثالية في العالم كله مستحيلة ، وهناك آلاف الأمثلة في كل دول العالم من فرنسا الى أميركا ، ومن نيوزيلاندا الى البرازيل على تحيز أو أخطاء يقع بها القضاء والقضاة أحيانا . فما بالكم وتقييد المحكمة الخاصة، وتحديد سلطاتها قد حدث منذ لحظة تشكيلها ، إذ إن هذه المحكمة جرى تصنيعها بشروط سياسية سافرة ، فحلفاء الأسد على سبيل المثال رفضوا التحقيق معه على الرغم من أنه متهم رئيسي في الجريمة ، وكان القاضي الألماني السابق ميلس يريد استجوابه ، واستجواب عدد من رجال الاستخبارات السورية ، ولكن دولا عديدة تدخلت وحصلت مساومة ، جنبت التحقيق مع المجرم الأكبر الذي صدر قرار القتل منه شخصيا ، ونفذت الجريمة بعلم واشراف ضباطه في بيروت ( رستم غزالة وجامع جامع .. إلخ ) . وحصلت أيضا تهديدات علنية وسرية للقضاة والمحققين ، فاستقال القاضي ميلس وتبعه بعض المحققين خوفا من اغتيالهم ! ومن بقي منهم عمل في جو يسوده الخوف وعدم الأمان ، بل ذكرت بعض الصحف الالمانية أن الدولة الالمانية ذاتها نصحت قاضيها ميلس بالاستقالة خوفا على حياته ، لأن أيدي المتهمين طويلة وقادرة على الوصول اليه حيثما كان!
وأعود الى سياق الحديث الأصلي لأقول إن الذين أنشأوا المحكمة الخاصة ، واشرفوا على عملها ، ومولوها يستطيعون التدخل أو التأثير على القضاة ، لا سيما أن التأثير والتدخل المناقض للعدالة قد حدث بالفعل من لحظة تشكيل المحكمة ، بفرض شروط عليها تتناقض مع هدف المحكمة ، أي تحقيق العدالة .
قرار المحكمة أدان عضوا من كوادر حزب الله ، ولكنه لم يدن الحزب . وجاء في القرار إن المتهم الرئيس المدان سليم عياش ليس هو المخطط والمدبر ، لأن العملية الجرمية أكبر من قدرات أي فرد . وهذا منطقي وطبيعي ، لأن حجم العملية أكبر من قدرة أي فرد لوحده ، ولا بد من فريق كبير من المنفذين، وقاعدة معلومات دقيقة عن الرئيس الحريري المستهدف وتحركاته ، بدقة لا تقبل الخطأ ، ولو بمعلومة واحدة . ثم من يستطيع توفير وملء شاحنة عملاقة بألفين وخمسمائة ( 2500 ) كيلو غرام تي ان تي ، وتحريكها في شوارع بيروت بدون حماية من أجهزة الاستخبارات السورية التي كانت حتى تاريخه تعلم وتراقب وترصد كل حركة ، في لبنان ولا يعقل أن تقع جريمة بهذا الحجم بدون علمها .
قرار المحكمة التي يفترض أنها غير مسيسة رفض توجيه الاتهام لحزب الله علما أن أربعة من أعضائه الكبار متهمون ( الثلاثة الذين لم يدانوا عنيسي وصبرا ومرعي ) على الرغم من توفر بعض الأدلة لا يعني أنهم أبرياء في الواقع ، لأن عدم كفاية الأدلة يعني باللغة القانونية أن هناك شبهة قوية ، وتتوفر أدلة ضدهم ، ولكنها غير كافية لإصدار قرار الإدانة والعقاب )، ولعل السبب الحقيقي هنا هو أن قضاة المحكمة الخاصة وضعوا على أنفسهم شرطا شبه تعجيزي هو كما قالوا ” أعلى درجة من الأدلة على التورط ” لإدانة المتهمين ، ما يعني أنه في محكمة أخرى ربما أدين هؤلاء الثلاثة الذين استبعدوا من الإدانة رغم توفر بعض الأدلة .
ورغم أنها قالت في قرارها أن المنفذ الرئيسي “عياش” ارتكب الجريمة بدوافع سياسية ، إلا أنه لم يذهب لاتهام الحزب الذي ينتمي له . وهكذا فالقرار يجنب حزب الله التهمة ، دون أن يوجهها الى طرف آخر ، فمن هي الجهة التي خططت ودبرت ورعت واشرفت ومولت وسهلت العملية الكبيرة ؟ ولحساب من ارتكبت ؟ ومن هو المستفيد منها ؟ وهذه الاسئلة يضعها كل قاض في مقدمة تحقيقه في أي جريمة غامضة .
ونفس الامر ينطبق على النظام السوري المتهم الثاني أو الأول ! ما هو دوره ؟ وما دور الاستخبارات الايرانية والحرس الثوري ..؟
لقد تجنبت المحكمة الخوض في هذه الجوانب المهمة جدا ، فكأننا نشاهد مسلسلا من مسلسلات الجريمة الغامضة ، ولكن المخرج يحرك الأحداث كما يريد لا كما يوحي تسلسل الاحداث والمنطق ! هل هناك تسييس أكثر من هذا التسييس؟