عن خليل معتوق وضحايا التغييب القسري في سوريا

حسن النيفي

في خطوة تكاد تكون نادرة في مشهد الوجع الإنساني في سوريا، أعلنت السيدة رنيم معتوق (وهي الفنانة التشكيلية والناشطة السياسية والحقوقية، وإحدى الناجيات من سجون الأسد) عن وفاة والدها المحامي المعتقل خليل معتوق، وذلك عبر منشور على صفحتها بعنوان «ما الذي تبقّى من الأمل»، تشير فيه إلى قرار عائلتها بعدم الاستمرار في الامتثال لأعباء الانتظار وسحائب الأمل التي لم تحمل سوى مزيد من زخّات الخيبة طوال أكثر من ثلاثة عشر عامًا.
وبهذا تكون السيدة رنيم من الأصوات المعدودة، وربما الفريدة، التي تحوز الشجاعة الكافية لمواجهة الحقيقة، موازاةً مع مزيد من القهر المتراكم الذي يمكن تبيّنه لدى معظم ذوي المغيّبين في سجون الأسد.
لعلّ إعلان السيدة رنيم عن وفاة والدها لا يحمل مضمونًا إخباريًا صرفًا، بقدر ما يجسّد انفجارًا لحالة من الصراع الداخلي لدى جميع ذوي المغيّبين، إذ ترك غيابهم المحاصر بأسوار شاهقة من التعتيم حالةً هي مزيج متداخل من الألم والأمل. ولو أن حضور الأمل في هذه الحالة غالبًا ما يأتي لتلبية حاجة نفسية يستدعيها المرء من دون أن تكون لها معطيات واقعية أو محسوسة، وربما يكون استحضارها ضروريًا لتعزيز حالة دفاعية في مواجهة ما لا يودّ المرء تصديقه.
الأستاذ خليل معتوق واحد من ألوف الحالات التي طالها الموت داخل السجن، من دون أن يعرف ذووها أي خبر أو تفصيل عن غيابها الأبدي. هل كان موتًا تحت التعذيب؟ أم تنفيذًا لحكم قضائي؟ أم نتيجة لعوامل أخرى؟
لم يخلُ المشهد من مواقف صادمة بل شديدة الإيلام لكثير من العائلات التي لم تعثر على أي أثر لأبنائها وبناتها، فلم يبرحوا محيط السجن عدة أيام متوالية.
بل يمكن التأكيد على أن ثمة ألوف العائلات السورية ما تزال تنتظر أيّ تفاصيل عن أبنائها المغيّبين منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث كان سجن تدمر العسكري منذ نيسان 1980 وحتى إخلائه من المعتقلين السياسيين في آب 2001 المسلخَ البشري الذي زجّت فيه السلطة النسبةَ الأكبر من المعتقلين السوريين، ضمن ظروف أمنية تنعدم فيها أدنى الشروط التي تراعي آدمية الإنسان.
وفضلاً عن حرمان ذوي المعتقلين من زيارة أبنائهم إلا في حالات استثنائية، كان بعض الأهالي يضطر إلى دفع مبالغ مالية كبيرة لمدير السجن أو لبعض مسؤولي السلطة المتنفّذين آنذاك لقاء رؤية أبنائهم لدقائق معدودة.
وقد أفضى ذلك النهج الأمني للسلطة إلى بقاء كثير من المعتقلين طوال عقدين في حالة غياب كلّي، لا يعرف ذووهم أهم أحياء أم أموات. وبالفعل، فقد طال الموت أعدادًا كبيرة من معتقلي تدمر، سواء من قُتل منهم تحت التعذيب، أو من مات شنقًا تنفيذًا للأحكام التي كانت تصدرها المحكمة الميدانية آنذاك بحق المعتقلين.
إلا أن معظم أهالي من ماتوا داخل السجن ظلّوا في حالة انتظار وترقّب طوال عشرين عامًا، إلى أن أتت بعض الظروف الفاصلة والحاسمة التي أنذرت بحسم حالة الانتظار.
كان ذلك في نهاية العام 2001، حين قرّرت السلطات الأمنية في سوريا إخلاء سجني تدمر والمزة، وتحويل جميع المعتقلين إلى سجن صيدنايا، ثم سمحت السلطات – ولأول مرة ربما – لأهالي المعتقلين بزيارة أبنائهم.
وهنا كانت الصدمة المروّعة لكثيرين ممن لم يجدوا أبناءهم في عداد الأحياء، ولكنهم في الوقت ذاته لم يحصلوا على إقرار رسمي بوفاتهم. الأمر الذي أتاح للبعض منهم التمسّك بخيوط من الأمل مهما كانت واهية، بل ربما كانت عقول الكثيرين منهم تُقرّ بعدمية ذلك الأمل، لكنها تميل إلى إيثار هشاشته على مواجهة الحقيقة الموجعة.
لقد أُتيح لي أن أكون شاهدًا على إحدى حالات إيثار الأمل المتوهَّم في أواخر العام 2001، حين خرجت من السجن بعد عقدٍ ونصف، أمضيتُ شطرًا منه في سجن تدمر. إذ زارني شقيق أحد معتقلي السجن ليسأل عن مصير أخيه المعتقل منذ بداية الثمانينيات، والذي كنت أعلم أنه قد صدر بحقه حكم بالإعدام ونُفّذ في آذار 1988.
وما الذي جعلني آنذاك أميل إلى مصارحته بالأمر من دون الاستمرار في استثمار مشاعره وعواطفه، هو شعوري بضرورة إنهاء هذا الوهم القاتل. فبدأت أمهّد له ببعض الكلمات التي سرعان ما استشعر زائري ما وراءها، فبادر بمقاطعتي بحزم مؤكّدًا أن لديه أخبارًا تؤكّد احتفاظ السلطة بأخيه في أحد الأفرع الأمنية، في محاولة واضحة لعدم الرغبة في مواجهة فجيعة الفقد.
لقد تكرّرت الكثير من الحالات المشابهة يوم الثامن من كانون الأول 2024، حين توجّهت بعض قوات ردع العدوان إلى سجن صيدنايا وفتحت أبوابه لإخراج المعتقلين.
وحينها لم يخلُ المشهد من مواقف صادمة بل شديدة الإيلام لكثير من العائلات التي لم تعثر على أي أثر لأبنائها وبناتها، فلم يبرحوا محيط السجن عدة أيام متوالية، مأخوذين بإشاعات تزعم بوجود أنفاق وزنازين بل وطوابق سفلية تحت البناء الأساسي للسجن، في حين واقع الحال يؤكد أن أولئك الذين لم يظفر أهلهم بعناقهم صبيحة ذلك اليوم، فقد كانوا في عداد الموتى.
تلك الأعداد الهائلة من ضحايا التغييب على امتداد الحقبة الأسدية ليست مجرّد أرقام وأسماء توثّقها المنظمات الحقوقية والإنسانية ثم تُطوى في سجلات الغائبين، بل هي حيوات لها كامل الحضور في وجدان ونفوس أهلها وذويها ومحبّيها.
ولكل ضحية خصوصيتها في الحضور والتجلّي، وإن من الإجحاف إجمالها أو اختزالها بتصنيف واحد يجاوره رقم.
إن الإعلان الرسمي عن استشهاد الأستاذ خليل معتوق من جانب عائلته ينبغي ألا ينتهي إلى مجرّد نعوة يتبعها عزاء، بل يجب أن يؤسّس – في سوريا ما بعد الأسد – لمسار جديد يعيد لقضية المعتقلين والمعتقلات وشهداء وضحايا السجون على امتداد الحقبة الأسدية اعتبارها الإنساني والقانوني.
بل من حق كل ضحية أن تتحوّل إلى قصة يتداولها الناس، ليس وفاءً للضحايا فحسب، بل تعزيزًا للمطالب والحقوق الإنسانية والقيمية التي ما يزال السوريون يناضلون من أجلها بغية العيش بكرامة وطمأنينة وسلام.
ولعلّ هذا ما يوجب علينا الوقوف أمام نبأ رحيل المرحوم خليل معتوق، ليس كواجبٍ أخلاقي فحسب، بل تأكيدًا على حاجتنا إلى الرصيد الإنساني الذي حازه المرحوم بكل جدارة.
إذ جسّدت حياته، خلال عشرين عامًا، نموذجًا للمناضل المتفاني في سبيل الحرية وحقوق الإنسان، فكان في طليعة المحامين الذين تبنّوا قضية المعتقلين السياسيين والدفاع عنهم منذ بداية التسعينيات في محكمة أمن الدولة، ثم في دفاعه عن معتقلي إعلان دمشق عام 2007، واستمراره في نضاله الحقوقي في مرحلة ما بعد الثورة حتى تاريخ اعتقاله في تشرين الأول عام 2012.
فضلاً عن رعايته وتقديمه خدمات كثيرة لأهالي المعتقلين من دون أي مقابل مادي، ولعل تفانيه في دفاعه عن حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان قد أفضى به إلى أن يكون من أبرز ضحايا الإرهاب الأسدي في سوريا.
إن الإعلان الرسمي عن استشهاد الأستاذ خليل معتوق من جانب عائلته ينبغي ألا ينتهي إلى مجرّد نعوة يتبعها عزاء، بل يجب أن يؤسّس – في سوريا ما بعد الأسد – لمسار جديد يعيد لقضية المعتقلين والمعتقلات وشهداء وضحايا السجون على امتداد الحقبة الأسدية اعتبارها الإنساني والقانوني.
ذلك الاعتبار الذي يجسّد المدخل الصحيح للتعاطي المخلص مع مفهوم العدالة التي تمثّل ناصية القضية الوطنية السورية.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى