
أثار شطب الاحتفال بعيد الشهداء الذي كان يرتبط بشهداء السادس من أيار الذين أعدمهم جمال باشا الحاكم العسكري العثماني لبلاد الشام عام 1916 قبل حوالي سنتين من هزيمة الجيوش العثمانية أمام الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وانسحاب تلك الجيوش خارج بلاد الشام وراء اقليم كيليكية جنوب تركيا الحالية.
أقول أثار شطب الاحتفال بذلك العيد موجة من الانتقادات في أوساط الناشطين السوريين عبر أدوات التواصل الاجتماعي. ويعكس الشطب وردود الأفعال عليه كون إعادة النظر في التاريخ الحديث لسورية – إذا لم نشأ توسيع الموضوع نحو التاريخ الأبعد من ذلك – أصبح مسألة مطروحة على الطاولة , وعلى الغالب فسوف نرى مستقبلا تكرارا لمثل تلك الاختلافات في النظر لأحداث الماضي ورجالاته , ويعني ذلك أنه لابد من إعادة النظر بطريقة موضوعية بالتاريخ الحديث لسورية على الأقل كي لانغرق في بحار الماضي البعيد .
ليست مهمة سهلة تلك التي تأخذ على عاتقها تقييم مرحلة زمنية تاريخية فائتة , فلكي نقوم بالتقييم الموضوعي ينبغي العودة لشروط تلك المرحلة , بما في ذلك التوازنات السياسية العالمية الفاعلة بتأثيراتها في المشرق العربي والبيئة الاجتماعية والاقتصادية لبلاد الشام في ذلك الوقت , وأخيرا أوضاع الدولة العثمانية ومآلاتها التي كانت تنحدر باتجاهها والتي ساهمت الحرب العالمية الأولى في حسمها بطريقة لامرد لها .
وقد سبق لي أن قمت بدراستين ضمن كتابين منشورين تعرضت في الأولى لماسمي بالثورة العربية الكبرى وعلاقتها بالحركات القومية في بلاد الشام وتعرضت في الثانية للعهد الفيصلي الذي تبع مباشرة هزيمة الجيوش العثمانية أمام قوات الحلفاء التي شارك فيها ” جيش الشمال العربي ” المتفرع عن جيش الشريف حسين بقيادة ابنه فيصل والذي كان من المفترض أن يعمل كذراع للشريف حسين ضمن مشروع الدولة العربية الكبرى لكنه جنح بسرعة ضمن رؤية واقعية للأمير فيصل وبدفع من السياسة البريطانية للانفصال عن الشريف حسين والعمل ضمن مشروع المملكة العربية السورية .
ومازالت الأسئلة التي ترددت بتفكيري حول تقييم أداء الأمير فيصل وتقييم تلك المرحلة ماثلة أمامي , فهل كان فيصل زعيما سياسيا براغماتيا حاول استخلاص مايمكن استخلاصه لسورية من خلال موازين القوى العالمية وتوجهات الدول الغربية الكبرى للهيمنة على المشرق العربي وحالة الضعف الشاملة للمجتمع الشامي الخارج من أحشاء الدولة العثمانية “كطفل رضيع لايملك شيئا من مقومات القوة” على حد تعبير الأمير فيصل في خطاب له بحلب في مطلع العهد الفيصلي .؟
أم أن فيصل كان بيدقا بيد السياسة البريطانية كما والده الشريف حسين استخدمته لتسهيل اختراقها العسكري والسياسي للمشرق العربي , هذا الاختراق الذي وصف بالنجاح الباهر في لندن وبسبب ذلك النجاح جرت مكافأة ضابط الاستخبارات البريطاني توماس لورنس الذي عمل مع فيصل كظله وكان الموجه له وصلته بالدولة البريطانية حيث جرى اعتباره بطلا قوميا .
في الحقيقة لايمكن تقييم المرحلة ولا رجالها بدون الأخذ بالاعتبار نقطة البداية التي ننطلق منها , فاذا انطلقنا مثلا من مصير سورية بعد انسحاب الجيوش العثمانية ودخول جيوش الحلفاء فمن الواضح أن سورية قد أصبحت تحت رحمة أعظم دولتين كولونياليتين في العالم انكلترا وفرنسا والهامش السياسي المتاح لبناء كيان مستقل أصبح هامشا محدودا جدا ويمر بالضرورة عبر المناورة السياسية مع هذه الدولة أو تلك بالتالي نجد أن رجلا مثل فيصل قد بذل جهدا سياسيا كبيرا لانتزاع مايمكن انتزاعه لصالح كيان سوري وليد , وقد استطاع في لحظة من اللحظات اقناع رئيس الوزراء الفرنسي اواخر العام 1919 بالاعتراف بكيان سوري ” مملكة عربية سورية ” مقابل اعترافه هو باستقلال لبنان وبقبول شكل من أشكال الاشراف الفرنسي على سورية , بعبارة أخرى بتفسير مخفف لفكرة الانتداب .
وتم التوقيع على هذه المعاهدة بالأحرف الأولى بين كليمنصو وفيصل لكن الحركة الوطنية السورية رفضت المعاهدة رفضا قاطعا ووضعت فيصل في موقف صعب فاضطر لصرف النظر عن المعاهدة .
المهم فيما سبق أننا إذا حددنا نقطة البداية من لحظة احتلال المشرق العربي من قبل التحالف الدولي بعد هزيمة الجيوش العثمانية فلن يكون أمامنا سوى خيارات محدودة جدا , وهنا يمكن القول عن فيصل أنه عمل جاهدا لحماية الكيان السوري الوليد بالأدوات السياسية المتاحة .
لكن إذا رجعنا إلى الوراء وجدنا أمامنا شروطا مختلفة كل الاختلاف , فالشريف حسين وقع بسهولة في فخ السياسة البريطانية التي وعدته بمملكة عربية كبرى تضم الجزيرة العربية والشام والعراق مع استثناءات محدودة وشروط تفصيلية مثل حق بريطانيا في البقاء جنوب العراق لفترة محددة .ومقابل ذلك كان عليه الانضمام للتحالف في الحرب العالمية الأولى وعمل كل مابوسعه ضد الدولة العثمانية عسكريا وسياسيا .
هذا الفخ الذي وقع فيه الشريف حسين أسفر عن تبعيته التامة للسياسة البريطانية بما في ذلك مشاركته الفعالة في تشتيت الجهد العسكري العثماني في الشام والحجاز , وقطع طرق مواصلاته , وشن حرب عصابات واسعة على مؤخرة الجيوش العثمانية , وضم عشائر عربية ضمن ذراعه العسكري ” جيش الشمال العربي ” واستثمار الاستياء الواسع الذي خلفه ظلم جمال باشا وتجنيد الشباب العرب للقتال في البلقان والجبهات البعيدة ..الخ وحين دخلت جيوش الحلفاء دمشق دخل معها الأمير فيصل فظهر الأمر كتحرير للعرب من ظلم الترك واحتفلت دمشق بالأمير العربي القادم من الحجاز ولم يكترث الناس بالقائد البريطاني اللنبي الذي قال حين دخل القدس : ” الآن انتهت الحروب الصليبية ” .
هل كانت للعرب خيارات أخرى ؟
بالعقل المجرد نعم , كان يمكن لبلاد الشام البقاء تحت مظلة الدولة العثمانية ولو لفترة محدودة , وسواء انهزم الجيش العثماني أمام الحلفاء في معركة أم انتصر فقد كان بالامكان ضمن دولة عثمانية متابعة القتال ضد الجيوش الفرنسية والبريطانية كما فعل الأتراك حين استعادوا كيليكية من يد الفرنسيين ثم خاضوا حرب الاستقلال التي اسفرت عن اعتراف الغرب بالدولة العثمانية بعد أن تم تقسيمها أسوأ بكثير من تقسيم المشرق العربي بموجب معاهدة سيفر .
ليس ذلك رأيي الشخصي بل هو تيار سياسي وجد قبل الحرب العالمية الأولى ويمثل الأمير شكيب أرسلان أهم رموزه وهو الذي حذر العرب من التحالف مع الغرب ضد الدولة العثمانية وتنبأ أن الغرب سيمزق المشرق العربي ويحتله بدلا من الاعتراف بالدولة العربية الحلم .
بالتالي فالرجوع للوراء لفترة ماقبل الحرب العالمية الأولى وبدايتها سوف يقدم معطيات مختلفة تماما , وضمن تلك المعطيات لايمكن القول إن ماسمي بالثورة العربية الكبرى كانت عملا صائبا من وجهة نظر العقل المجرد , بل كانت فخا تم من خلاله ايقاع المشرق العربي تحت الاحتلال الغربي بسيوف ودماء العرب أنفسهم وبكثير من المكر البريطاني وقليل من المال والسلاح .
هكذا لا يمكن تبرير تلك المرحلة، وباعتبار فيصل وثيق الصلة بها فلا يمكن أيضا تجاهل ذلك عند تقييم المرحلة اللاحقة وأعني بها العهد الفيصلي.






