عدنان بدران: تعليم النخبة لم يحقّق أهدافه

  مهند مبيضين

نصبَّ نفسه مراقباً عامّاً أو برج مراقبة على المعرفة والعلم في الأردن، وداعية إلى الحريات العلميّة والأكاديميّة، وظلّ وفيّاً لقيم المعرفة والريادة، وبناء الفرق العلميّة والجمعيات المتخصصة والمؤسّسات. وبقي رجل عطاء زاخر، متسامحاً، صافحاً عن منتقديه ومرحّباً بنقدهم، ومساجلاً من أجل التعليم الحر، وناقداً بنية التعليم البطريركي.

احتفت مؤسّسة عبد الحميد شومان في عمّان، أخيراً، ضمن برنامج ضيف العام، بالعالم الدكتور عدنان بدران بوصفه أحد أبرز الوجوه والسير العلمية الأردنية والعربية، وجاء الاحتفاء الذي شارك به عرب وأردنيون في ستّ جلسات علميّة، عاينت تجارب الضيف في مختلف محطات حياته، وفي جوانب العطاء الذي قدّمه خلال سبعة عقود منذ التحاقه بالجامعة الأردنية في منتصف الستينيات.

تميز الرجل في عمله الجامعي بأنه كان يرسل الجامعات إلى المجتمع، ولا ينتظر المجتمع لكي يأتي إلى الجامعة بكل أحماله ورهاناته، ويستشهد الجميع بتأسيسه مهرجان جرش للثقافة والفنون عام 1981 والحثّ على تطوير الزراعة، وإشرافه على تأليف مناهج الأحياء في الأردن وفي أكثر من دولة عربية، ثمّ توالت خبراته وتجاربه، منها مساهمته في تأسيس مدرسة اليوبيل على نمط تعليمي أسّس لثقافة أن الأغنياء يجب أن يساهموا بتعليم الفقراء، بتوجيه من الراحل الملك الحسين.

ولو وزّعنا عمر الرجل على مهامه ومساراته المتعدّدة لوجدناه قد أنفق عمره المديد في العمل لأجل الحياة، والتأثير في المجتمع، وليس لأجل العمل، الذي قالت ابنته في كلمة العائلة: “إنه رجل عمل بامتياز، يصحو باكراً ويرتب أموره، لكنه كان يجعل الأبواب حارساً فعالاً، كي لا يتسرّب العمل إلى البيت ووقت العائلة”.

تميز عدنان بدران في عمله الجامعي بأنه كان يرسل الجامعات إلى المجتمع، ولا ينتظر المجتمع لكي يأتي إلى الجامعة بكل أحماله ورهاناته

يطرح مساره العلمي فكرة تكوين النخب العلمية في الأردن، وأدوارهم المؤسّسية والفكرية والسياسية، وهو من فئة أبناء الأفندية أو أعيان الدولة في زمن الإمارة والمملكة، والتي ظلت حاضرة في امتدادها الوظيفي طوال القرن العشرين، وفي الثلث الأول من القرن الحادي والعشرين، لكن القلة من الجيل الثالث من تلك العائلات استمرّت بالحضور والتأثير نفسيهما، وابتعدت عن السياسة إلى القطاع الخاص. ورغم أن تلك النخبة التي قادت المؤسّسات في مرحلة تأسيس المملكة بعد الاستقلال، وبخاصة في عقدي الستينيات والسبعينيات غالباً ما كانت محافظة في التفكير، إلا أن بدران تمتّع بنظرة ليبرالية، وبأسلوب ديمقراطي في العمل.

ولد في جرش عام 1935، من أب تدرج في المواقع القضائية الشرعية خلال حكم الإمبراطورية العثمانية والدولة العربية الفيصلية من قاض في حمص عام 1913 ثم تبوك عام 1915 في الزمن العثماني، ثم دخل القضاء الشرعي زمن إمارة شرق الأردن، فزمن المملكة. ودرس، هو وشقيقه الأكبر مضر الذي صار رئيساً للوزراء أكثر من مرّة في عهد الراحل الحسين بن طلال، الثانوية في مدرسة الكرك، بسبب عمل والده قاضياً فيها، ثم الذهاب إلى مدرسة خضوري الزراعية في طولكرم، ومن ثم الابتعاث العلمي إلى جامعتي أوكلاهوما وميتشغان وتخرّجه منهما متخصصاً في العلوم البيولوجية، وفي الولايات المتحدة عمل باحثاً في أكثر من جامعة، ليعود إلى العمل في الجامعة الأردنية العام 1966، وفيها كانت بداية مشواره الأكاديمي وبزوغ نجمه في الإدارة، فكان أول من ترأس جامعة اليرموك عشر سنوات، حفلت بالعطاء والجهد، كما أنها كانت المرحلة الأهم في تاريخ الجامعة، والتي انتهت بأحداث الطلبة عام 1986. وآنذاك استقطب للجامعة أفضل الكفاءات في التخصّصات العلمية، من أردنيين وعرب، أمثال كمال أبو ديب وجاسر الشوبكي وعلي نايفه وغيرهم، وكان في ذلك يؤمن بتعدّدية الأساتذة في الجامعة، وليس كما هو اليوم حال الجامعات التي تُفضل ابن المنطقة على غيره.

وبعد ذلك عَمِلَ أميناً عاماً للمجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا، ثم تقلّد حقيبة وزارتي الزراعة والتربية، ومع بداية عقد التسعينيات كان عليه أن يبدأ مرحلة جيدة في العمل بأهم المنظمات الدولية خلال العامين 1990 – 1993، فكان المدير العام المساعد للعلوم في اليونسكو، بعد ذلك تقلد أعلى منصب يتولاه عربي فيها وقتها، إذ عمل نائباً للمدير العام خلال الأعوام 1993 – 1998. ليعود من جديد إلى إدارة الجامعات، فترأس جامعة فيلادلفيا، التي أطلق فيها أكبر حملة جوائز علمية وثقافية، لكنها (الجامعة) بعد عهد خَلفه مروان كمال الشخصية البالغة الأهمية في عالم التعليم العالي الأردني، ونتيجة لتغيير قاعدة المالكين، لم تعد تولي الثقافة اهتماماً كبيراً، ومن فيلادلفيا صعد إلى رئاسة الوزراء في إبريل/ نيسان 2005. وآنذاك تمّ التعويل عليه بوصفه شخصية أكاديمية ثقافية عالمية اتسعت رؤيتها وبنت سمعة محترمة، ولكن حكومته لم تطل مدتها، بسبب تفجيرات في ثلاثة فنادق في عمّان في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2005.

الحرية يجب أن تكون خيار المستقبل، الذي ندافع عنه بشكل واضح؛ كي لا نسمح لما يسمى بثقافة الخوف والرقابة على الفكر أن تنتصر على ذاتنا ومعرفتنا

واجهت حكومة بدران عند التشكيل صعوبات مع مجلس النواب، فأجرت تعديلاً قبيل دخولها المجلس جراء احتجاج نواب محافظة الكرك بسبب عدم وجود أي وزير بالحكومة من مدينتهم، وكان ذلك أمراً استثنائياً وصادماً، فهل هو خلل في الرؤية أم بالنظرة لتشكيل الفريق وكيفية بنائه، أم أنه لم يتدخل فيه، ويقال إنه استلم قائمة أسماء الوزراء من وزير البلاط آنذاك مروان المعشر، فدخلت الحكومة أزمة مبكّرة، ومع ذلك تجاوزتها، ولكن حدث التفجيرات قصّر عمرها، ليستلم بعده الحكومة الراحل معروف البخيت، إذ كان عنوان المرحلة أمنياً بحتاً. ومع ذلك، ابتهج كثيرون بعدنان بدران العالم رئيس حكومة، وتوقّعوا منه التغيير وتعزيز المسار الديمقراطي، إذ عوّلت عليه النخبة كثيراً، لكن الأوطان لا تسير بحسب إرادة النخب، فالمتاعب والأزمات حالت دون إتمامه دوره. وبعد الحكومة أصبح عيناً، وصار رئيساً لجامعة البتراء. وهو رجل لا تدهشه المواقع، متواضع جداً يمكن أن يقبل برئاسة جمعية طلابية في ناحية فقيرة وبعيدة عن عمّان جداً، وفجأة تجده يشكل لها مجلس أمناء وعملاً ومهامّ ويرعى نجاحها، فهو قامة تُلملم عِلمها معها وتحاول اكتشاف الجديد دوماً داخل بنية المتجمع الأردني، الذي يرى أنه أنجز الكثير بفعل العلم والتعلم.

يؤمن بدران بأن الجامعات مرجل التغيير والركن الأساسي في عملية التنمية، ويعتقد أن لا تنمية سياسية قبل أن تكون هناك تنمية ثقافية وتفعيل لشروط الحوار وبنى المجتمع المدني. ودافع مساجلاً عن مبادئه في الإدارة الليبرالية، والحثّ على الديمقراطية في التعليم، وظل رافضاً التعصّب، وتعهد في كل مواقعه بأنه سيقف ضده، كما آمن بأن بنية التعليم وأسلوبية التدريس في الجامعات قائمة على عقلية السلطة البطريركية. ولذا، يرى أن الحرية يجب أن تكون خيار المستقبل، الذي ندافع عنه بشكل واضح؛ كي لا نسمح لما يسمى بثقافة الخوف والرقابة على الفكر أن تنتصر على ذاتنا ومعرفتنا.

أول من ترأس جامعة اليرموك عشر سنوات، حفلت بالعطاء والجهد، كما أنها كانت المرحلة الأهم في تاريخ الجامعة، والتي انتهت بأحداث الطلبة عام 1986

لا يُخفي بدران رأيه في مسألة أدوار رؤساء الجامعات ومواصفاتهم وخبراتهم، ويرى أنه يجب على الرئيس أن يكون قد تولى مناصب أكاديمية قريبة من منصب الرئاسة، وهذا ما يوفر الخبرة في الإدارة، ويضاف إلى ذلك متطلب الخبرة الدبلوماسية والدراية السياسية، لأن على الرئيس، بحسبه، أن يتعامل مع الدولة بوصفها مؤسسات ونظاماً، وإذا استطاع رئيس الجامعة أن يدير خطوط اتصاله كلها، فانه يستطيع أن يحافظ على استقلالية الجامعة.

آمن بدران بأهمية الثقافة ودور الجامعة نحو المجتمع وتحديثه، وظل يسعى إلى دور مغاير للجامعات حين تولى جامعة اليرموك، فهو من المؤمنين بأن الثقافة لا تتحقق إلا في جامعة ذات رسالة، وللجامعة دور في رفد الثقافة وصناعة الفعل الثقافي وتنمية الثقافة وفكر التعددية والحرية بين الطلاب والمدرسين وتنمية الجوانب الروحية. يحتاج العمل الجامعي لحلم، لذا يقول: “يجب أن نعمل من أجل حلمنا، الحلم يجعلك تعمل له، وربما نفشل أو ننجح لأننا محكومون بالأمل، وهذا ما يجعلنا بديناميكية مستمرّة. لذلك، أنا ضد بيروقراطية وزارة التعليم العالي ومجلس التعليم العالي”.

كان بدران قد حذر عام 2004 في حوار صحافي مع كاتب السطور من أن مآلات منهاج التربية الوطنية لن تقود إلى تعزيز قيم المشاركة وتوسيع النقد وحب البلاد، قائلاً: “هذا ما أخشاه فعلاً، فنحن لا نريد تكرار ما فعلته الدول ذات الطابع الأيديولوجي التي حكمتها رؤية معينة وكانت تفرض موادها على الطلبة في السنة الأولى، وكان لها رد فعل عكسي، نحن لا نريد فقط ولاءات بقدر ما نريد تنمية الاعتزاز الوطني، لقد فشلت الأيديولوجيات في الدول المجاورة، لأنها لم تعط الأولوية للوطن بل للمصالح الشخصية وتأليه الزعامات الحزبية وتقديس الحزب”.

 يُقر بدران بالتخلف وسلطوية التدريس في كثير من الجامعات الأردنية، ويعترف بأن تعليم النخبة لم يؤد إلى الغاية منه

أكد بدران دوماّ على نبذ داء الخوف، فإذ أصبحت لدينا خطوط حمراء في كل شيء كما يقول: “سينعدم التفكير والحوار مع الذات والدين والنظام، ولهذا لم يستطع الفرد أن ينتقد نظامه الاجتماعي، وهذا ما ساهم بفرض مرجعيات متخلفة ورجعية على عقول الشباب، والتي غدت غير قادرة على تخطيها فتكرست ثقافة الخوف، والتخلص من هذا الجدار لا يتم إلا بإنشاء جيل مبتكر وخلاق، لأنه من دون ذلك لا يمكن لنا المضي في عالم تجتاحه الحريات”. وهو يُقر بالتخلف وسلطوية التدريس في كثير من الجامعات الأردنية، ويعترف بأن تعليم النخبة لم يؤد إلى الغاية منه.

وبرغم انشغاله الكبير بالمجالس والمنظمات العلمية، ظل عدنان بدران على صلة بحقل اختصاصه، لكنها صلة داخل المكتب، “فأنا أكتب ستة أبحاث في السنة، وهي صلة ليست مخبرية، كما أنني مهتم بالقراءة والكتابة عن التربية والتعليم، وقد شاركت في تأليف استراتيجية الوطن العربي للعلوم والتربية والثقافة التابعة للألكسو، وشاركت في كتابة وإعداد استراتيجية الثقافة العربية الشاملة”.

الرجل اليوم نائب رئيس تحرير الموسوعة العالمية لدعم العلوم الحياتية، والتي يشارك فيها 16 ألف مؤلف، ووصلت إلى 180 مجلدا ونجتمع من أجلها كل ستة أشهر في باريس، كما أنه نائب رئيس الأكاديمية العالمية للعلوم في ترسيتا بإيطاليا ورئيسها هو البروفسور إيروس سلام الحائز على جائزة نوبل للسلام، و”أنا رئيس الأكاديمية العربية للعلوم في بيروت ومقرّها في مكتب اليونسكو. لذلك مهامي العلمية كثيرة مقارنة مع الإدارية، وهي توفر لي حالة استمتاع وشعور بالرضا عن النفس”.

يشارف عمره اليوم على إتمام عقده التاسع، وفي كلمته الختامية بحفل التكريم شدّد بدران على أنه ما زال يؤمن بالحرية العلمية وديمقراطية التعليم، وأن التعليم هو الطريق الوحيد للنهضة، وقال وهو يحمل قبعة: “لقد أهداني أولادي هذه القبّعة عندما بلغت الثمانين، والآن أقول لهم عليكم أن تأتوا بأخرى بعد شهر، عندما أبلغ التسعين، وسأهدي القبعة الأولى لمن سيبلغ الثمانين في اليوم ذاته الذي سأبلغ به التسعين”.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى