مسألة المقاتلين الأجانب في سورية

عبدالله مكسور

في عمق الشمال السوري، وتحديداً في محيط إدلب باتجاه الحدود السورية التركية، تتكثّف واحدةٌ من أكثر القضايا تشابكاً وغموضاً في المشهد السوري. ملف المقاتلين الأجانب. القضية التي بدأت في جذورها جزءاً من معركة أوسع حملت في ظاهرها شعارات “النصرة، التحرير، الثورة”، وقامت على قاعدة “المهاجرين، الأنصار” لينتهي بها المطاف اليوم إلى عبء ثقيل يُقيد أي محاولة لإعادة ترتيب الأمن والسيادة في البلاد.

لم تكن حادثة اختطاف الطفلة الفرنسية داخل ما يُعرف بـ”مخيم الغرباء” في محيط حارم مجرّد واقعة جنائية أو أمنية محدودة، وإن بدَت في ظاهرها كذلك، بل تمثِّل، في جوهرها، انفجاراً مصغّراً لأزمة متراكمة منذ أكثر من عقد على الأرض السورية. في هذه الحادثة، تتداخل المسافات بين المحلي والدولي، وبين القانون والسياسة، وبين سيادة الدولة السورية الجديدة – الشريكة السابقة لرفاق الخندق مع إرادات الخارج، لتكشف عن مأزقٍ لا يخصّ دمشق وحدها، بل يمتد إلى عواصم كبرى تركت خلفها “مواطنيها الجهاديين” في أرضٍ تنتهجُ وفق المُعلَن مبدأ إطفاء الحرائق المتناثرة منذ “8 ديسمبر” (2024).

منذ بدايات عام 2012، تحوّلت سورية إلى نقطة جذب مركزية للجهاديين العالميين، بعد أن وُضِعَت في خانةِ أرض المعركة الكبرى ضد الظلم. جاء مئات المقاتلين من فرنسا، بلجيكا، بريطانيا، أفريقيا، المغرب العربي الكبير ودول الاتحاد السوفييتي السابق، بعضهم بدافع ديني صرف، وآخرون لأسباب وجودية أو سياسية أو حتى انتقامية من مجتمعاتهم. دخل هؤلاء المقاتلون المشهد السوري في لحظة الفوضى الكبرى التي أعقبت انقسام المعارضة وتراجع سيطرة دولة الأسد في مناطق واسعة، ليجدوا لأنفسهم مواقع داخل بنية التنظيمات المسلحة التي راحت تتكاثر وتتنوع أيديولوجياً وعسكرياً. وبمرور الوقت، تمايزت طبقات الجهاد السوري، كما لو كانت انعكاساً لخرائط النفوذ الدولي نفسها. فمن جبهة النصرة التي حملت الهوية القاعدية، إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) التي أعلنت مشروع دولة موازية، وصولاً إلى حرّاس الدين وفرقة الغرباء، لتظهر تشكيلات أكثر انغلاقاً وأشدّ ارتباطاً في مركزيتها بالمقاتلين الأجانب. كانت تلك الجماعات تملك رؤية فوق سورية، تنظُر إلى نفسها باعتبارها جزءاً من معركة كونية، لا شأن لها بحدود الجغرافيا ولا باعتبارات السياسة المحلية أو التفاهمات المطروحة.

جماعات تملك رؤية فوق سورية، تنظُر إلى نفسها باعتبارها جزءاً من معركة كونية

تمثل فرقة الغرباء بقيادة الفرنسي السنغالي عمر ديابي (أومسين) اليوم خلاصة هذا المأزق. إنه الصبي السنغالي، الداعية الديني لاحقاً، الفرنسي فيما بعد، لم يكن مجرّد مقاتل عابر للحدود، بل يمثّل، في حالته، رمزاً لتقاطع ثلاث دوائر: الفكر الجهادي العابر للحدود، والتجنيد الإلكتروني الذي ربط الضواحي الفرنسية والأحياء الأفريقية بجبهات إدلب واللاذقية، والازدواجية الغربية في التعامل مع أبنائها الضالين. فقد كان الرجل، بحسب تقارير فرنسية وأميركية، مسؤولاً عن تجنيد أكثر من 80% من الجهاديين الناطقين بالفرنسية الذين التحقوا بسورية والعراق. اعتُقل من هيئة تحرير الشام عاماً ونصف العام ثم أُفرج عنه، وعاد ليقود مجموعة صغيرة من حيث النسبة والتناسب العددي مع فصائل انضمّت إلى الدولة السورية الجديدة، لكنها متماسكة فكرياً، لتصبح آخر ما تبقّى من البنية الأصلية للمقاتلين الأجانب في البلاد، الذين يحاولون وفق المعنى العام إقامة دولة داخل الدولة، دولة تتحكم بها قيادات تتكلم لغاتٍ مختلفة، لكنها تتقاطع جميعاً في مفهوم الاستقلال عن الجميع في مناطق يمكن وصفها بالرمادية التي تعيش على حافة الشرعية.

في مساحة الاشتباك هذه، يمكن تأطير المشهد في الضفتين التاليتين: عندما حاولت دمشق فرض سلطتها على المخيّم، برّرت العملية بأنها تطبيق للنظام العام وفق الإعلان الرسمي الصادر عن الأمن الداخلي في إدلب، بينما ردّت فرقة الغرباء ببيانٍ غارقٍ في التناقضات، يتّهم الدولة بالعمالة والتنسيق مع المخابرات الفرنسية. تختصر هذه المفارقة عمق المأزق السوري الحالي: فكل طرف يتّهم الآخر بأنه فقد بوصلته الأخلاقية والوطنية، وخان زمن الخنادق! وبالتالي، العلاقة بين الدولة السورية الجديدة والمقاتلين الأجانب اليوم أشبه بترسّباتٍ من زمنٍ لم يُطوَ بعد. تحاول دمشق، في مرحلة ما بعد التحرير، إدماجهم ضمن بنية الدولة، وفي الوقت نفسه، تخفيهم عن الكاميرات أو تقلل من ظهورهم في الأضواء. ولا يقتصر هذا على المؤسسات الأمنية والعسكرية، بل يمتد إلى المؤسّسات المدنية. والإشارة هنا بوضوح إلى المعهد الدبلوماسي الذي يُناط به رفد وزارة الخارجية بالكوادر، فقد شهدت دورات هذا المعهد، منذ إعادة إطلاقه بعد سقوط نظام الأسد، وجود شخصيات فيه من المقاتلين الأجانب الذين انخرطوا في عملية ردع العدوان. بينما يتعامل معهم المجتمع الدولي مشكلة مؤجلة، لا بوصفهم مسؤولية إنسانية.

المقاتل الأجنبي ليس مجرّد شخصٍ يقطع الحدود بسلاحه وعقيدته، بل هو تعبير عن فكرةٍ عابرة للأوطان تبحث عن معنى أو انتماء خارج مفهوم الدولة التقليدية ومقاربتها

هل ما يحدث اليوم أو تمرّ به سورية انطلاقاً من شمالها استثناء تاريخي؟ قطعاً لا، يمكن وضعه في سياق الامتداد لسلسلة طويلة من التجارب التي تشكّلت بعد حروب عديدة معاصرة. فالمقاتل الأجنبي، في جوهره، ليس مجرّد شخصٍ يقطع الحدود بسلاحه وعقيدته، بل هو تعبير عن فكرةٍ عابرة للأوطان تبحث عن معنى أو انتماء خارج مفهوم الدولة التقليدية ومقاربتها. ظهرت هذه الفكرة في إسبانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، حين لبّى آلاف المتطوعين نداء الألوية الدولية للدفاع عن الجمهورية ضد الفاشية. لكنهم خرجوا بعد الحرب ضمن تسوية واضحة أنهت وجودهم العسكري، لتبقى تجربتهم درساً في إمكانية ضبط الظاهرة ضمن أطر قانونية وأخلاقية. لكن عندما انتقلت الظاهرة إلى أفغانستان في الثمانينيات، تغيّر المشهد تماماً. فالمقاتلون الذين تدفّقوا آنذاك تحت شعار الجهاد ضد السوفييت لم يعودوا متطوّعين ضمن ألوية منظّمة، بل تحوّلوا إلى بنية عابرة للحدود لم تعترف بأي سيادة وطنية. في غياب الإطار السياسي والدولي المنظّم الذي جعل أولئك المقاتلين يتحولون إلى شبكة مفتوحة أنتجت لاحقاً تنظيم القاعدة، لتصبح الظاهرة من بعدها عاملاً بنيوياً في زعزعة استقرار دولٍ كاملة. وبالتالي، تبرز أفغانستان هنا باعتبارها المثال الأوضح على أن ترك الغرباء بلا تسويةٍ قانونية أو مشروع إعادة دمج يعني إيجاد كياناتٍ ظلّية قادرة على إعادة إنتاج العنف إلى ما لا نهاية. كذلك من الممكن التوقف عند نماذج أكثر براغماتية في التعاطي مع هذا الملف في العالم، سيراليون وليبيريا مثلاً اللتين فرضتا برامج نزع سلاح وإعادة تأهيل شاملة للمقاتلين الأجانب بعد انتهاء الحروب الأهلية، لم تقتصر التجربة على تسليم السلاح، بل شملت أيضاً مسارات للتعليم والعمل والمواطنة، بحيث يجري امتصاص فائض القوة داخل المجتمع، بدل أن يتحوّل إلى تهديد دائم. وبهذه الصيغة، استطاعت تلك الدول أن تمنع انبعاث الصراع من جديد، وأن تحوّل فرقة الغرباء من مصدر خطر إلى جزءٍ من عملية إعادة البناء.

في الحالة السورية، تتداخل جميع هذه النماذج، من دون أن يتحقق أي منها فعلياً، فالدولة لم تستطع بناء إطار مؤسسي لاستيعاب الظاهرة أو تفكيكها، فيما تخلّت دول المنشأ عن مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية تجاه مواطنيها الذين قاتلوا في سورية. وهكذا وُلد وضعٌ فريد: مقاتلون أجانب يعيشون في فراغ، محاصرون بين ثلاث جبهات: سلطة تراهم عبئاً أمنياً، وفصائل تنظر إليهم أدوات ضغط، ودولٍ غربية ترفض استعادتهم خشية انتقال الخطر إلى أراضيها. أنتج هذا الفراغ شكلاً جديداً من حالة اللاانتماء، حيث يعيش المقاتل الأجنبي بلا قضية واضحة ولا وطنٍ يعترف به، ويتحوّل، مع مرور الوقت، إلى فاعلٍ رماديّ في اقتصاد الحرب ضمن مجمّعات محدّدة. تُبقي هذه الحالة من الجمود المسلح الملف على الطاولة السورية والدولية في منطقة مؤجلة للحسم، ليس بسبب القوة العسكرية، بل لأن الوجود، بحد ذاته، يعكس عجزاً محلياً ودولياً عن وضع حدٍّ قانوني وأخلاقي لهذه الظاهرة. في ظل اختلاف تعريف سورية في الأذهان بين الجميع.

منذ بدايات عام 2012، تحوّلت سورية إلى نقطة جذب مركزية للجهاديين العالميين، بعد أن وُضِعَت في خانةِ أرض المعركة الكبرى ضد الظلم

من بين كل الأصوات التي حاولت التبرير أو التفسير أو حتى التخفيف من حجم الكارثة المقبلة، برزت تلك الفئة التي تتحدّث باسم الرؤية الرسمية من دون الظهور بمسمّيات تشير إلى الوظائف التي يعملون بها في الدولة الجديدة. إنهم المدافعون عن كل خطوات الدولة السورية عبر الشاشات، أولئك الذين يظنون أن تكرار الجمل الجاهزة كافٍ لتصويرهم حماةً للعقل والشرعية. تسمع أحدهم يقول بثقةٍ عجيبة: “عمر ديابي لا يشكّل أي أهمية للدولة الفرنسية”. جملة تبدو كأنها خرجت من نشرة تدريبية في الإنكار السياسي، أكثر مما تعبّر عن وعيٍ بحقيقة ما يجري في الشمال السوري. لا يعرف هؤلاء أن الجهل ليس وجهة نظر، وأن تسطيح المسائل المعقّدة لا يحولها إلى إنجازات أمنية. فهم يتعاملون مع ملف المقاتلين الأجانب كما لو أنه فقرة في تقرير إداري، لا ظاهرة عابرة للحدود تهدّد توازن المنطقة، وتكشف عجز المجتمع الدولي عن مواجهة إرث أكثر من عقدٍ من الحرب. وحين يصرّ أحدهم على القول إن “الموضوع بسيط” أو أن “الأمر تحت السيطرة”، لا تدري أهو يعيش في جغرافيا أخرى أم في سرديةٍ حكوميةٍ لا علاقة لها بما يحدث فعلاً بين إدلب وحارم ومخيم الغرباء.

لا تأتي الميوعة في الخطاب من قلة المعلومات، بل من الإفراط في الطمأنينة المزيفة والمركزية الزائفة، من إيمانٍ غريبٍ بأن الإنكار من أشكال السيادة. وكأن القول إن “ديابي غير مهم” يمكن أن يلغي أثره في تجنيد مئات الشبان الأوروبيين والأفارقة، أو محوه من ذاكرة شبكات سرّية ما تزال تنبض في الظل. إنها ليست حالة الدفاع عن الدولة بقدر ما هو دفاع عن الجهل والفرصة التي يجب ألا تضيع من خلال رفع راية الوعي الوطني والمعرفة الواسعة، فيما بالكاد هم يدركون الفرق بين السيطرة على الأرض والسيطرة على المعنى، بين الأمن الحقيقي والارتجال الإعلامي الذي يحوّل الخطر إلى نكتةٍ بيروقراطية سمجة وممجوجة دون إنهائه أو فكفكة جذوره.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى