
ليس من بلدٍ إلا ويعيش بين سياسات عامة ناجحة وأخرى تواجه تحدّيات تحتاج إلى ابتكار واستراتيجيات، وهذه طبيعة الحياة المتميّزة بإمكانية النهوض بعد التعثّر، لأنّ ثمّة ميزة خاصة بالإنسان هي التعلّم من العثرات. ولعلّ سقوط حافلة لمسافرين من على جسر إلى مجرى وادي الحراش شرقي الجزائر العاصمة (قبل نحو شهرين)، الذي أسفر عن عدد معتبر من الضحايا (رحمهم الله جميعاً!)، فرصة لتناول تجربتَين من تحدّيات عالم الأعمال، يمكن أن تتحوّل مصدراً للإلهام بحلول لم يعلم بها المسؤولون (ربّما) أو تهانوا في حلّها أو لا يعرفون كيفية إدارة القطاعات التي يضطلعون بها، ويحتاجون إلى إيقاظٍ للهمم ومساءلة. ذلك أن الأزمات مدرسة لتعلّم الدروس ولمراجعة دائمة للنفس.
كلنّا يعرف إيلون ماسك وتحدّيات شركته تسلا التي عايش معها مشكلاتٍ عويصة، إذ لم تربح الشركة فلساً لأكثر من عقد. لكنه لم يفقد الأمل في أن يحوّل مشروعه من مشروع على حافّة الإفلاس تفوّق فيه منافسوه عليه (تويوتا اليابانية مثلاً)، إلى مشروع مربح (قبل تقلّبات سوق المركبات الكهربائية في العامَين الماضيين وتكبّد ماسك خسائرَ، اضطرته لطرد عشرات الآلاف من المستخدمين). انطلق ماسك في حلمه في ابتكار مركبة كهربائية مع شركاء له سرعان ما انقلب عليهم ليستحوذ على الشركة، ويبدأ رحلة البحث عن أفضل السبل لتحقيق أربعة أهداف: مدّة استقلالية المركبة المشحونة بطاريتها، وعدم تعرّض البطارية لأعطاب ومشاكل على غرار الاحتراق، ونقاط شحن البطارية، ثمّ تنافسية المركبة بسعر معقول يكون في مستوى مداخيل الطبقة المتوسّطة.
اجتمعت لماسك هذه التحدّيات، وتجاوزها بأن صبر على منحنيات غياب الربحية، وراح يخطّط لمناوراتٍ منها إدراج “تسلا” في بورصة نيويورك للحصول على تمويلاتٍ لمشاريعه، والاستفادة من تكنولوجيا اليابان في البطاريات المُوجِّهة للمركبات الكهربائية، إضافة إلى تحيينه فرصة بدء العمل بما يُعرف بـ”بورصة الكربون” ليحصل على مقابل من أموال الملّوِثين، بما أن شركته من الشركات المُحترِمة للبيئة، ولم يصل بعدها إلا إلى الحصول على نسب ربحية متصاعدة استثمرها في بحوث الفضاء، ثمّ في شراء “تويتر” (“إكس” حالياً).
متغيّر التحدّيات أساس الرسم الكامل لمنظومة السياسات العامة، لأنه يعالج مشكلات موجودة فعلاً، وقد تستبقها في أحيانٍ كثيرة
بالنسبة إلى “هواوي”، شركة التكنولوجيا الصينية، فقد واجهت عاصفة المقاطعة والحصار الأميركيَّين في مجال أشباه الموصلات والرقائق، إضافة إلى برمجيات التشغيل لهواتفها الذكية. لكنّ المفاجأة أنّ الصين جهّزت إجراءاتٍ استباقية، منها العمل في جبهتَين، هما التزوّد بمليارات الدولارات من أجهزة أشباه الموصلات والرقائق، إضافة إلى تبنّي خطط العمل البحثي لتطوير تلك الأدوات داخل مختبرات الشركة ذاتها، ممّا أفشل القطيعة الأميركية، بل تجاوزت الشركة أهدافها في ما خطّطت له كلّه، ما يدلّل على أن التخطيط بكفاءة على مستويات استراتيجية كفيل باحتواء التحدّيات وتحويلها زخماً للنجاح بالابتكار والإبداع.
تُعلّمنا التجربتان (فيما يتعلّق بإشكالات السياسات العامة في الجزائر) ثلاثة دروس في سياق استلهام مقاربات مواجهة التحدّيات، لعلّ أولها (على الإطلاق) أن متغيّر التحدّيات أساس الرسم الكامل لمنظومة السياسات العامة، لأنه يعالج مشكلات موجودة فعلاً، وقد تستبقها في أحيانٍ كثيرة، كما فعل ماسك في مشروع “تسلا”، و”هواوي”، في علاج مشكلات التزوّد بأشباه الموصلات والرقائق، إذ فَهم كلّ منهما أهمية تصوّر المشكلات واستباقها بحزمة حلول تطاول المحتمل من المشكلات، وتتصوّر توجيهاً لها، وتضعها ضمن خياراتها في حال حدث تطوّر في اتجاه ذلك التصوّر. وثاني الدروس أن الكفاءة هي مفتاح العمل كلّه، ولهذا استعان ماسك وشركة هواوي بالمختبرات، وبنخبة من خرّيجي الجامعات المتخصّصة، بل زادت “هواوي” بتوجيه مليارات الدولارات نحو بند “البحث والتطوير” (R & D)، في حين أن ماسك استفاد من إدراج “تسلا” في البورصة، ليحصل على مئات الملايين من الدولارات وجّهتْ إلى البند السابق على مستويين: البطاريات، وتذليل صعوبات الإنتاج وتخفيض مستويات التكلفة في كل مُدخلات إنتاج المركبة الكهربائية، وبنسب مرتفعة سمحت بتحقيق الربحية، وزيادة حصّة “تسلا” في سوق شديدة التنافسية.
ثالث تلك الدروس يتمثّل في أن النجاح لا يجري إلا من خلال التفكير في المشكلات والبحث لها عن حلول، في إطار منظومة كلّها بحث وعلم وإدارة بالكفاءة، إضافة إلى إحاطة العمل بحزمة تحفيزات لتحقيق الزخم الدافع إلى رفع التحدّيات ورسم الاستراتيجيات بما يكفل تحقيق الأهداف التي رُسمتْ منذ البداية، ذلك أن مناخ العمل كلّه تنافسية، وأيّ تأخّر في رفع تحدّيات العمل يزيد المشاكل فداحة، ويضخّم هوة الخسائر، وهو ما لم تقبل به لا “هواوي” ولا “تسلا”.
التحدّياتُ ليست عائقاً بل مدخلٌ لبناء السياسات العامة
بالنتيجة، تعلمنا التجربتان أن الحياة تحدّيات، والاستباقية في تخيّل المشكلات وإيجاد الحلول لها، إضافة إلى منظومة التفكير التي يجب أن تحيط بمسارات السياسات العامة كلّها، وهو ما تحتاجه مشكلاتنا التي تبرز وتتفاقم من دون أن يكون ديدننا أعمال تلك المنظومة من رفع التحدّيات بخلفية استباق المشكلات، مع إرساء منظومة تفكير تقود السياسات العامة. وقد جاءت مقالات سابقة للكاتب على هذا في “العربي الجديد”، إذ ثمّة ثلاثية حيوية في تجربتَي “تسلا” و “هواوي”، ونراها ضرورية لحلّ مشكلاتنا، وهي ثلاثية: الرشادة والكفاءة والنجاعة، تجمع بين التخطيط والاستباقية والتفكير في حلّ معضلات السياسات العامة، وهي معضلات دائمة، تبحث عن إجابات تستدعي الابتكار والإبداع، بخلفية ما قدمنا من وجوب عدم الاستهانة بالمشاكل أو إرجائها، بل ربما إهمالها، لتكون النتيجة أن ما وقع من كوارث كان من الممكن تجنّبه أو على الأقلّ تحجيم خسائره، سواء في الممتلكات أو في الأرواح.
قد تقع مشكلات، بل يجب أن تكون. ولكن، في مسار السياسات العامة، ووفق التجربتَين اللتَين عليهما مدار المقالة، يكون التخطيط الاستباقي دوماً في مخيّلة المُسيِّرين، ثمّ في أجندة عملهم، لأن السياسات العامة خطوات، أهمها إدراج التخطيط الاستباقي للمشكلات، وتصوّر مقاربات حلّها، أو ما يُسمى في مجال التدقيق المالي، خصوصاً بـ”كرّاسة الحلول المفترضة، التي معها تُتصوَّر المشكلات افتراضياً قبل أن تقع، وتُوضع خيارات الحلول لمواجهتها، فيكون لدى المُسيِّر خطوة استباقية قبل وقوع المشاكل.
في حالة حادثة الحافلة المذكورة أعلاه مثلاً، تراكمت المشكلات من اهتراء للطرقات، واهتراء المركبات، وسوء تقدير من الرقابة التقنية والإدارة المتخصّصة في منح اعتمادات النقل بالترخيص لمثل تلك الحافلة بالسير والعمل، إضافة إلى نقص الصيانة والعامل البشري، ما أوجد ظروفاً مواتية لوقوع الحادث، وكان يمكن تجنّب ذلك أو تحجيم خسائره لو قام الجميع بالتخطيط الاستباقي بالنظر إلى إشعارات تحذيرية لكل مناحي التقصير المذكورة (بعضها صادر عن المواطنين في وسائل التواصل الاجتماعي، وبعضها الآخر ممّا توفّر بفعل حوادث كانت أقلَّ ذكراً في الإعلام لأنها لم توقع ضحايا). وهي على عاتق إدارات متعدّدة على التحقيق أن يكشف مدى المسؤوليات التي تتحمّلها جرّاء وقوع الحادث، وما نجم عنه من ضحايا، أي تحوّل مشكلات التسيير لقطاع النقل حزمة مسؤولياتٍ في التقصير، بعضها ممّا يدخل في إطار التقصير الإداري/ التسييري، وبعضها يندرج في إطار الحقّ المدني، وسيقوم القضاء بتحديدها حتماً.
حين تتكامل المسؤولية مع المساءلة تبدأ السياسات العامة الناجحة
وقعت الحادثة فعلاً، وأوقعتْ ضحايا، فماذا علينا فعله مستقبلاً لتفادي تكرارها؟ هناك مرحلة مهمّة في السياسة العامة يطلق عليها “مرحلة التعلّم”، فيعمد المسؤولون وصنّاع القرار إلى التحقيق في الحوادث والتعلّم من نواحي القصور التي أدّت إليها، بعد إيقاع العقوبات بالمقصّرين. هناك قرارات يجب اتخاذها، حتى المؤلم منها، فهناك المساءلة لإيقاع العقوبات على المقصّرين، ثمّ المرور إلى ما هو أهم بجرد خطوات العمل كلّها، وبقصد اكتشاف الجوانب التي وقع فيها تقصير، وهي هنا حالة الطرق المهترئة، حالة المركبات التي يجب منعها من السير تدريجياً بما لا يمنع من بقاء بعضها يعمل بعد إجراء مراقبة تقنية صارمة لها، واستبدال الجديد منها بالمعطوب، وصولاً إلى العامل البشري من عاملين في قطاع النقل (مالكين وعمّال)، وإدارة، وإصدار رخص السير، وغيرها من الإجراءات التي على المسؤولين مراجعة منظومتها بالكلية، حتى نمنع وقوع حوادث مشابهة مستقبلاً، وقد يحتاج ذلك إلى إشراك المجتمع المدني والطبقة السياسية، بل ومؤسّسات البحث العلمي، لأن منظومة السياسات العامة تحتاج إلى تضافر الجهود، خاصة بعد وقوع أزمات مثل التي عايشناها، بما يوفّر ظروفَ عمل مثالية وتعاضدية بين منظومات المجتمع كافّة.
ينسحب العمل بهذه المقاربة الجديدة على السياسات العامة كلّها، التي فيها كثير من التقصير، سواء منه المتعمّد في سوء الإدارة والفساد، أو باعتماد منظومات تسيير لا تتكيّف مع المتغيّرات. وبالرغم من أن ذلك العمل مُتعِب ويحتاج إلى جهد وكفاءة، إلا أن مجرّد اعتماد تلك المقاربات بالتخطيط الاستباقي والعمل بثلاثية الكفاءة ـ الرشادة ـ النجاعة، بخلفية المسؤولية والمساءلة، يكون كفيلاً بتجسيد التسيير الجيّد، ويمكّن من تفادي المشاكل، أو يكون تأثيرها (حين تقع) يسيراً وضعيفاً، وخاصة تقليل حجم الضحايا والمساس بالممتلكات.
لا يمكن تعريض الناس للمساءلة إذا لم يقترن ذلك بالمسؤولية والصلاحيات، إضافة إلى تحميل المسؤولية للأكفأ ثمّ الأكفأ. وعندها فقط نكون قد وضعنا السياسات العامة في سياق النجاح. وأيضاً، نكون قد أسّسنا للعمل بالتخطيط الاستباقي؛ بتصوّر المشاكل وأخذ الاحتياطات اللازمة لتفادي تكرار ما وقع في حادث الحافلة، التي أسفنا لعدد الضحايا الكبير فيها، ونريد من صميم ما ندعو إليه (التعلّم من التجارب وبناء المناعة الاستباقية) ألا تتكرّر. فكل روح غالية، وكل حادث هو عين التقصير يستدعي المعالجة، والمراجعة، ثمّ التعلّم لاستشراف المستقبل.
المصدر: العربي الجديد






