الرئيس الجزائري أحمد بن بيلا يذكر لي آخر نكتة سمعها من المصريين ويتمني أن يسير في شوارع القاهرة ليحكي قصة عبد الناصر مع ثورة الجزائر ويتذكر “قدرة الفول” التي أكل منها لأول مرة.
اتصل بي الإعلامي الشهير أحمد سعيد رئيس إذاعة صوت العرب من عام 1953 إلي عام 1967، قائلا:”خد رقم التليفون ده، واتصل بأحمد بن بيلا هو منتظر مكالمتك الآن، عشان تقابله”، واتصلت بالزعيم الجزائري وقائد ثورتها ضد الاحتلال الفرنسي، وأول رئيس لها بعد الاستقلال عام 1962، وكان في زيارة إلى القاهرة، وحين عرفت بها استثمرت عمق علاقتي بأحمد سعيد صديقه التاريخي، وطلبت منه أن يرتب لي موعدا للقائه، فلبي الرجل بكرمه المعهود معي.
في الساعة الرابعة عصرا في أحد أيام شهر مايو 2003، كنت أمامه في أحد الفنادق الكبري على نيل القاهرة حسب موعدنا.. كان وقتئذ يبلغ من العمر 87 عاما “مواليد 1916″، قضي منهم 24 عاما في السجون ثمنا لنضاله، لكن وجهه الباسم بلا تجاعيد، وخفة حركته ورشاقته، وذاكرته القوية تجعلك تخصم 40 عاما من عمره، وحين أبديت له ملاحظتي حول ذلك، علق ضاحكا :”هي من نعم الله الكثيرة عليِ، لا أحمل سوءا لأحد، تعلمت الاستغناء من حياة النضال والسجن، إفطاري كوبا من الماء وعدة حبات من الفستق، وأبقى عليه ساعات طويلة، وأحرص على التريض، ولدي استعداد لتسلق الجبال”
كان في صباح هذا اليوم في زيارة إلى قبر فتحي الديب رجل عبد الناصر في الثورات العربية في الخمسينيات والستينيات، وهمزة الوصل بينه وبين ثورة الجزائر التي بدأت في كفاحها المسلح 1 نوفمبر 1954، وتوفي بلا ضجيج يوم 7 فبراير 2003، وكان نصيبه خبرا صغيرا في صفحات داخلية لبعض الصحف الرسمية.. كان بن بيلا لايزال على تأثره: “حبيبي وأخي وعظيمي وأستاذي فتحي، توفي قبل أن أراه، رحمه الله.. أخي أحمد سعيد قال لي كلاما طيبا عنك، وعن صلتك العميقة به وبفتحي، إشادته بك جعلتني أقول له، أريد أن أرى سعيد هذا”.
أخجلني هذا الثناء منه، وقلت له: “في حضرة تاريخك الطويل والثري، لدي حيرة من أين نبدأ، ففاجئني بقوله: “نبدأ من آخر نكتة قالها المصريون”.. ألقى النكتة وضحكنا، وكانت عدسة زميلي المصور حاضرة لتحفظ لي صورة نادرة لي معه، وواصل كلامه: “أخي سعيد، أعشق مصر وناسها وأرضها وخفة دمهم ونكاتهم، ولا أنسى أخي جمال عبدالناصر فهو من علامات المنطقة اللى نورت..لولا مصر ما كانت ثورة الجزائر. لولا ناصر ما كانت المساعدات للثورة. أتمنى أن أختم حياتى في مصر”.
تدفقت ذكرياته، وتدفقت أسئلتي، وضحك حين سألته حول ذكرياته عن أول يوم زار فيه مصر قائلا: “نعم يا أخي. نعم يا أخي. بقيت 6 أشهر منذ أن وطأت قدماي أرض مصر لأول مرة، اشتهي أكل الفول. لم أكن أتحدث العربية. كنت أتحدث الفرنسية، لأن اللغة العربية كانت ممنوعة بأمر الاستعمار الفرنسي”.
سألته عن اسم “مزياني مسعود” الذي حمله حين جاء هاربا لأول مرة إلى مصر عام 1953، وذهب إلى مبنى الإذاعة يسأل عن أحمد سعيد في “صوت العرب”، ضحك من قلبه:”ما شاء الله، ما شاء الله، لم يتركني أخي أحمد يومها، اهتم بي، أخذني إلى بنسيون في وسط القاهرة، وعزمني على الطعام، واشتري لي ملابس.. صوت العرب وأحمد سعيد كان بشيرا بثورة الجزائر. ودوره في دعمها حتى النصر جليلا. وفضله كبيرا في توحيد وتثوير وتعريب العمل من أجل الاستقلال.. هناك شيء لم أذكره من قبل عن صوت العرب، وحدثت أخي جمال عبد الناصر عنه. ففي اليوم الذي طلبت فرنسا المفاوضات معنا، وحدثني الأخ جمال عنها جاء وزير خارجيتها، واتفقنا على أن يقدم كل طرف مطالبه، وتقدم الفرنسيون بمطالبهم. تصورت أن يتصدرها وضع ال 2.5 مليون فرنسي في الجزائر، ومزارعهم وممتلكاتهم وكل الأشياء التي تخصهم.. لكن فوجئت بأن الذي يتصدر حديثهم هو إذاعة صوت العرب.. كانت أكثر من جيش بالنسبة لهم.. هي لليوم إذاعتي المفضلة. أذكر أن أول خطاب وجهته إلى شعبي في الجزائر كان منها. كان بالعربية لكنه مكتوب بحروف فرنسية، فالعربية وكما قلت لك كانت ممنوعة.”
سألته عن أول لقاء له بعبدالناصر..ضحك قائلا: “نعم، نعم ،لا أنساه، كان يوجد شخص ثالث مترجم لأنه لم يكن يتحدث الفرنسية التي أتحدث بها، وأنا لم أكن أتحدث العربية. ورغم وجود المترجم. كانت القلوب تتكلم. شيء ما كان يتجاذبنا.. قلبي قلبه. وقلبه قلبي. اللُحمة كانت واحدة…جمعنا الحب الذي لا يفرق أبدا. فيه ناس لما يجلسوا مع بعض شيء ما يمر بينهم.. هذا الشيء مر بيني وبين الأخ جمال. أخي جمال كان يقاوم الاستعمار، ونحن نقاومه. كان يناضل من أجل استقلال أمته، نحن أيضا. لكن ثورته كانت هي الحضن، ولولاها ما كان الاستقلال”.
أضاف: “أمدتنا مصر بكل أنواع المساعدات حتى السلاح النوعي الذي احتجنا إليه مع السلاح المصري كان من الزعيم الهندي نهرو. كان السلاح الهندي قويا وأفضل من السلاح الفرنسي الذي يقتلوننا به. كانت خطوة أخي جمال لدى نهرو حاسمة في إمدادنا بالسلاح، وحاسمة في التأكيد على أن مصر بثورتها وثقلها الكبير تساعد بل تتبنى الثورة الجزائرية، وهو ما ساعد في عرض قضيتنا في المحافل الدولية”.
سألني عن عمري، وعن منابع معرفتي، فأجبته.. كان يهز رأسه، وكان حنونا فقلت له:” بمناسبة سؤالك عن سني، أسألك: إذا كانت المقاومة والتضحية بالدماء من أجل الاستقلال هي مصدر إلهام لأجيالكم التي اكتوت بالاستعمار، فما الشيء الذى تراه ملهما لجيلي؟..هز رأسه ثم قال: الاستعمار يعود من جديد. لكن أرى مصادر الإلهام للأجيال الجديدة هي العلم والمعرفة. لابد أن يكون هناك إنسان عربي جديد.. إنسان يتعلم ويعرف ويحمى مصالحه بأسلوب علمي، ويعرف من سبقوه ممن صنعوا نهضة هذه الأمة. ويفهم أن العلم ليس محايدا، بمعنى أنه في الغرب يحافظ على مصالحه”.
قلت له:” أي الألقاب تفضلها، رئيسا، مناضلا، قائدا؟..رد :أنا مناضل.. أحب هذا اللقب.. أعاون بلادي. وأبحث مصلحة شعبي”. قلت له: “كيف ترى سنوات سجنك الطويلة؟أجاب:لا أنظر إليها من جانبها المر..لا أبغض أحدا. وعلى الدوام أرى شعبي ماذا يريد.. قلت قبل ذلك أنا ناضلت والعصمة لله، وعملت لبلدي، وإذا كنت أخطأت فقد سجنت 24 عاما، وإذا كان هم أخطأوا في حقي فليسامحهم الله”..سألته:”من تحمل معك معاناة السجن؟، فقال:” أمي الكريمة رحمها الله، وأخواتي الذين توفاهم الله، وزوجتي زهرة التي شاركتني أتعس لحظاتي، وتحملت حياتي التي حبانا الله بها، وأسوء خبر تلقيته في السجن كان وفاة أخي جمال عبدالناصر”.
كان النهار يزحف إلي نهايته، وكانت شمس الأصيل تعكس أشعتها على مياه النيل، فطلب مني أن ننظر سويا إلى هذا المشهد من البلكونة، وسحبني من يدي، وبينما يسرح بنظره مع مياه النيل، سألته ماذا تشعر في هذه اللحظة؟.. أجاب:” هي أحب لحظاتي في القاهرة وساعة شروق الشمس، هذه اللحظات تستدعي دائما عندي مسألة أخبرك بها وهي ..أتمنى أن أسير في شوارع القاهرة.. أشعر أنها أرضي.. وبلدى.. أتمنى أن أتحدث مع كل من يقابلني عن قصة مصر مع ثورة الجزائر.. وأقول له مصر في قلبي. ناصر في قلبى،ناصر ظاهرة نظيفة ومضيئة في تاريخنا ولن تنساه الشعوب المحبة للكرامة ، ولن ينساه شعب الجزائر، لولا مصر ما كانت ثورة الجزائر، وثورات أخرى.. اليوم الذي جئت فيه القاهرة لم يكن معي شيء. ووقفت أمام قدرة الفول، وأطعمني صاحبها دون أن يأخذ مني شيئا، أخذنا السلاح والطعام والمال لنحرر بلادنا. أتمنى لو أتم أيامى في هذا البلد. والله هذه أمنية أدعو الله أن يلبيها”
المصدر: صفحة الصحفي سعيد الشحات