
تسود الأجواء السياسية السورية اليوم وقائع متناقضة شديدة التعقيد، سواء بملفاتها الخارجية متعددة الأبعاد والتي لم تزل ترهق كاهل السوريين عامة. تلك التي يمكن تصنيف أولوياتها بـ: -العقوبات الدولية وانعكاساته على الواقع المادي والتنموي والحياتي، – وتعدد اللاعبين الدوليين وشروطهم في مسار الوضع السوري، وهذه تكتنفها التناقضات الحادة في مسار الواقع السوري اليوم، بين دعم المحور التركي الخليجي وخلفه الدولي الأميركي الأوروبي المشروط، مقابل الابتزاز الإسرائيلي المقوض للاستقرار الداخلي والذي يمثل التهديد المباشر وينافس النفوذ التركي خاصة جنوبي دمشق والمنطقة الجنوبية، في حين لم يزل ملف الاتفاقات التي أبرمتها روسيا مع النظام السابق وتدخلها العسكري في سوريا لسنوات محط تنازع بين الترويض والتحييد وهذا ما برز مع الزيارة الأخيرة لموسكو.
في حين لم تنزل الملفات الداخلية والمفترض أنها المحددة لمسار المرحلة الانتقالية قليلة الاهتمام أمام الملفات الخارجية السابقة. الملفات الداخلية تتعلق بشكل أساسي: – بإدارة المرحلة الانتقالية وتأمين حاجيات الاستقرار المادية والحياتية، – ملفات العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، – والنزاعات متعددة الأقطاب حول أدوار النفوذ والوجود في المرحلة الحالية سواء في بنية السلطة بذاتها أو بينها وبين الأطراف التي تتنازع معها سواء شرق الفرات أو الجنوب السوري أو الساحل، والتي تكاد تهدد البنية السورية وهويتها العامة.
الملفت للانتباه هو تركيز السلطة السورية الانتقالية على الملفات الخارجية أكثر استجابة وتفاعل معها مقارنة بالملفات الداخلية، وليس فقط، بل سواد خطاب التفكك والكراهية والتخوين والتطييف العام وعدم امتلاكها الأدوات المفترضة للحد منها أو إنهائها. فإن كنا قد افترضنا بمرات عدة ومقالات متعددة كسوريين للتحذير من أخطارها، والتركيز على ضرورة تبديل الأدوات، من أدوات قوة ونزاع لأدوات حوار طويل الأمد. فالقاعدة الأساسية في علوم السياسة تقول: أن البنية الداخلية المتماسكة للدولة تعكس طبيعة علاقات خارجية متوازنة وتصب في مصلحة البناء والتنمية، في حين الاستجابة للشروط الخارجية وحسب يشكل فجوات واسعة قابلة للاستثمار فيها بما يتجاوب مع الوضع الداخلي السوري المستقطب بتعزيز النزاعات متعددة الأقطاب. هذا أضف لأن سياسات الدول الكبرى في العالم قابلة للتغير عند كفاية مصالحها وتحققها، ما ينذر بتقلبها وتغيرها وهذه مؤشر خطر عام، فكيف وإن الملفات الداخلية لم تحل بشكل عمومي ما تشكل بوابة واسعة للاستثمار فيها وتقويض الاستقرار الداخلي بعامه.
اليوم، أمام سوريا ضرورة تاريخية للتموضع على ذاتها مرة أخرى بعدما كانت رهينة تضارب المشاريع الخارجية طوال سنوات الثورة، وهذه الضرورة تفترض الإقرار المبدئي بأن المرحلة الانتقالية مرحلة ترويض وتهيئة لمرحلة الدولة بعدها. ما يستلزم إعادة النظر بوسائل وطرق إدارتها سواء على المستوى الأمني وضبط السلاح أو على مستوى الاختلاف في الرؤى السياسية والتي باتت تتغذى من جذور طائفية وعصبوية عميقة. فالفرق الشاسع بين تأجيج هذه الخلافات بالنكران ومحاولات الإخضاع وبين إمكانية التفاهم والحوار طويل النفس يُلمس بنتاجه الواقعية اليوم. ففي التاريخ المعروف عن الثورات، لخص هوبز محاولات فرض الهيمنة الوحيدة على بقية الفرقاء في مرحلة الثورات وما بعدها وأسماها “حرب الكل ضد الكل”، والتي لن تنتج سوى المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار وهذا خلاف أهداف المرحلة الانتقالية بمضمونها وهدفها المفترض، هذا ومع إدراكنا أن المسألة السورية بموقعها الجيوسياسي، فجميع هذه النزاعات قابلة للاستثمار من جهات خارجية لأهدافها الخاصة، وكل من إسرائيل وإيران بالمرصاد. الضرورة التاريخية اليوم متراكبة الأبعاد، فإن لم تكن بذاتها تعني مستقبل سوريا بعد ثورة دامت ل 14 عام بكل منعطفاتها وحجم تضحياتها، فهي تعني مسار وسياق الممكن الحالي تخفيفاً لأطر ومسارات التشتت التي تزيد من ملفات وأعباء سوريا الخارجية. وبالتالي، فخيار العودة للتموضع على نقاط الارتكاز الداخلية السورية وحل مشكلاتها وعقابيلها لازال ممكناً اليوم، سواء بإدارة الاختلاف والتنوع الثقافي والديني والسياسي، وهذا واقع مفروض لا يمكن محوه أو تجاهله أو الانتقاص منه، ما يتطلب استعادة فرص الحوار على أرضية الاعتراف بالحقوق والمصارحة والمكاشفة بالأسباب الفعلية التي أدت لارتكاب مجازر متعددة متنقلة خلال فترة قصيرة. كما والعمل بذات الوقت على تحفيز المحيط العربي الداعم للاستقرار والأمان السوري، على المشاركة في عمليات التحول البنّاء، ليس فقط من بوابة اقتصادية ومالية وفقط، بل من بوابة الاستحقاق العام بضرورة تخفيف حدة التوترات الداخلية السورية، وذلك حتى لا تصبح ممراً لغير الراغبين بالاستقرار السوري. وهنا من الهام جداً ألا تتحول سوريا لرهينة لأدوات الخارج، بل تتكئ فعلياً على علاقات المصالح الحيوية والمحيط الحيوي من خلال موقعها الجيوسياسي.
من أبرز محطات الثورة السورية أمام تعدد الأجندات الخارجية طوال مسارات الثورة، هو التماسك الأهلي والمجتمعي، هذا التماسك كان العنوان الأبرز في قدرة السوريين على تجاوز كثير من المطبات التي كادت أن تشعل حروباً أهلية يستفيد منها النظام السابق، خاصة بين الجيران المختلفين، والجبل والسهل في الجنوب مثال هام ومحوري فيه. ما يشير اليوم إلى ضرورة التمسك بهذا البعد العميق في سيرورة البناء السورية والتراجع عن جميع الأخطاء التي حدثت بالأشهر الماضية والعمل على علاجها من جذرها، وجذرها عدم الاعتراف بالتنوع والاختلاف وكيفية إدارته! في حين أن توهان البوصلة السورية اليوم يتأتى من ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، والذي يشتت جميع الجهود التي تحاول لمّها في عقد سوري واحد. فالوطنية السورية اليوم في أصعب امتحاناتها أمام مفهوم الغلبة أولاً وصراع النفوذ الخارجي وأطماعه لتقاسم تركة المنطقة اقتصادياً وسياسياً ثانياً، وتعميق الهوة البينية في الوضع الداخلي السوري وجعله المؤثر الأساسي ثالثاً. فالخلاف الأيديولوجي والسياسي والديني كان ومازال عاملاً رئيساً قابلاً للتوظيف في خدمة هذه الأجندات الدولية، وكل منها يبحث عن سند خارجي له، سواء ادعى المعارضة أو الموالاة وشبهتهما، في حين كان المواطن السوري لليوم هو أداة صراعها وضحيتها الكبرى بكل الأشكال والأصناف.
قال الراوي يا سادة يا كرام: كان يا مكان في قديم الزمان وفي سالف العصر والأوان، كانت الأمة عقل تعاقد على الجامع بين الاختلافات في شؤون البشر، فكانت الأمة دولة.. والعقل يقول ليس كل ما تراه العين هو الحقيقة وحسب، وإلا فإن كل شخص لا أراه غير موجود! وكان هناك من يقول نعم هو غير موجود بالنسبة لي لأنني لا أراه ولا أريد رؤيته! وكأن الذئب لن يأكل الغنم إذا كان الراعي يغط في نومه ولا يراه، وعلى الغنم ألا تقر بوجود الذئب المتربص بها، إذا فليأكل الذئب ما يشاء لأنه غير موجود.. ويستمر الجدل إلى ما نهاية إذ يكون الذئب متخماً مرتاحاً لفعلته! في حين لسان اليقظة يكرر فينا قول الإعرابي خشيته أن “الصيفَ ضيعتِ اللبن”، فهل لا زلنا لا نرى الذئب لليوم؟
المصدر: تلفزيون سوريا